مذكرات خالد سليمان العدساني
(رحمه الله)
سكرتير
مجلس الأمة التشريعي الأول والثاني
المقدمة
بعض ما في هذا الكتاب وريقات ووثائق سطرتها وأنا وسط الأحداث العاصفة التي هبت على الكويت أثناء التأزم في المراحـــل الأخيرة من أيام (مجلس الأمة التشريعي) في عام 1939.
فلما حل مجلس الأمة التشريعي الثاني أو قبل ذلك أدركت أن الواقعة ستقع وأن السلطة ستطاردني للقبض علي وربما فتشت بيتي فتعثر على هذه الوريقات وتصادرها. تقبض علي ليس بصفتي فقط سكرتيرا لمجلس الأمة التشريعي الأول فالثاني بل ولانها تعلم اني انا الوحيد الذي رتب وأنشأ ودون كل أثر من آثار المجلسيين، لهذا عنيت بدفن هذه الأوراق في التراب عند عتبة غرفة نومي في بيت الوالد الكائن في شارع (فهد) الصالحية سابقا، وبعد أن وضعتها في علبة من التنك. وصدق ظني فلقد داهمت السلطة البيت للقبض علي فلما لم تجدني فتشت كل من فيه لكنها لم تعثر على الضالة. وبعد سنوات عدت الى الكويت من العراق مع الأخوان الحاج محمد الثنيان الغانم والسيد محمد أحمد الغانم والسيد عبدالوهاب عيسى القطامي عام 1363هـ 1944م بطلب من المرحوم أمير البلاد آنذاك الشيخ أحمد الجابر المبارك الصباح الذي أرسل لنا وفدا من شخصيات الكويت بعد ان اطلق سراح المعتقلين السياسيين الخمسة ليعبر لنا عن كامل رضاه وتناسي احداث الماضي وآثاره. وحينما وصلت الكويت بعثت تلك الأوراق المدفونة من مرقدها ثم جعلت تنتقل معي وتطاردني سنوات من بلد الى آخر في أمل ترتيبها أو تهيئتها في كتاب متى سنحت لي الفرصة.
غير ان ما فيها من مواقف صعبة لبعض الشخصيات وغالبهم اصبح عزيز على الآن جعلني اتردد في نشرها، فضلا عن ان اعادة ترتيبها أو تهذيب بعض ما فيها ثانية قد يفسد من طبيعتها الواقعية ويسئ الى امانة التاريخ التي هي في نظري اقدس من سواها.
فأكتفيت وانا في لبنان بإصدار رسالة صغيرة سميتها (نصف عام للحكم النيابي في الكويت) ضمنتها فقط الوقائع والوثائق والانجازات التي حدثت ابان مجلس الأمة التشريعي الأول، ومع ان تلك الرسالة الصغيرة اقتصرت فقط على ذكر الوقائع المجردة متحاشية الاثارة ومتجنبة التعريض باحد الا ان مديرية الامن العام حينذاك صادرتها وطاردت من وزعوها وغضب علي من جديد فتحاشيت العودة للكويت بضع سنوات اخرى حتى خفت حدة الغضب وهدأت النفوس الثائرة، واذا بالرئيس المسؤول عن ادارة الامن العام الشيخ عبدالله المبارك الصباح الذي أمر بمصادرة الرسالة يعود فيرجوني بنفسه للرجوع للكويت وهكذا عدت ثانية للكويت الوطن العزيز عام 1950هـ.
لكن العبرة لم تغب عن بالي، فرسالة صغيرة مقتصرة على سرد الوقائع المجردة ومحررة بأسلوب مهذب بعيد عن الاثارة والتحريض احدثت كل ذلك الغضب فما بالك اذا اردت ان اصدر كتابا كاملا اتولى فيه سرد الاحداث والوقائع التاريخية بالتفصيل والتحليل ؟!!.
ولست هذه المرة متهيبا من السلطة فان السلطة أو الحكومة أية حكومة قائمة أو التي ستقوم في الكويت حين صدور هذا الكتاب لها من التجارب وسعة الافق ما يهون عليها الأمر في احتمال القليل من اجل كتابة التاريخ بصورة صحيحة ليس فيها وهم ولا تحريف.
وإنما الذي اتهيب منه واتقيه هو وقع نشر مثل هذه المواقف التاريخية على بعض الشخصيات الكبيرة والعزيزة مما وردت اسماؤها ضمن ذلك وفيهم كثير من العزيزين الغالين علي وفيهم من عدل مواقفه الضعيفة من القضايا الوطنية فوفى الدين وأداه.
هل أخسر صداقة هؤلاء الأعزاء جميعا؟ هل سيسامحني بعضهم؟ هل أهذب من هذه الأوراق الصفراء التي تطاردني منذ سنين؟ فأقضي على ما فيها بالحذف والتغيير والتهذيب؟ لست ادري.. ولكني اقول اني عملت كل جهدي وان امانة التاريخ المقدسة تلزم علي ان احتفظ ولو بالرؤى والاطياف من الصحائف الماضية انشرها كما حررتها بتواريخها قبل اكثر من عشرين عاما لتكون مدخلا لمن يهمه دراسة مراحل الحركات الوطنية في الكويت. كيف بدأت وكيف تدرجت حتى انتهت الى ما نحن عليه. فعذرا خالصا اولا للأصدقاء الكبار الذين أعزهم وثانيا للذين قد يرون في ايراد مثل هذه الصفحات أو بعضها سردا تفصيليا لإمور صغيرة كأنتخابات مجلس للبلدية أو مجلس للمعارف، لكني أقول وسيقرني الكثيرون أن عنيت من هذا السرد شرح الأحوال والأفكار التي كنا نعيشها في الكويت حينذاك، فهي أثر صحيح لبدأ الحركات الوطنية كيف نشأت وكيف تطورت وتلك هي الغاية الأولى من نشر هذا الكتاب والله الموفق.
خالد سليمان العدساني
سكرتير مجلس الأمة التشريعي الأول فالثاني
الحركات الفكرية في الكويت
لم تنشأ أو لم تعرف في الكويت أية حركة فكرية أو اصلاحية أبان الحكم الأول ولا حتى في اوائل عهد المرحوم الشيخ مبارك الصباح (مبارك بن صباح الثاني الحاكم السابع للكويت).
إذ لم يكن في الكويت من البواعث والمهيئات للحركات الاصلاحية والفكرية شئ مما كان في اغلب البلاد الاخرى. فقد كان الكويتيون يقنعون بداية استيطانهم للكويت بالتافه واليسير من العيش، وكان الحكم في بداية استقرارهم يكاد يكون شوريا مجردا من إمارات السيطرة والتحكم. كذلك لم يلج الاجانب إذ ذاك بلادهم لينافسوهم في اسباب الرزق فيتولد بالاحتكاك معهم روح من النشاط والمعرفة والتنافس. كما ان الحركات الفكرية والوطنية في العالم العربي جميعه كانت خاملة متقطعة. لهذا تفشت الأمية، وانتشرت الخرافات التي ادت في الجزيرة العربية أبان الحكم العثماني الطويل الثقيل. حتى اذا تفجرت مع بداية القرن العشرين النهضة المصرية التي حرك اوارها مصلحا الشرق العظيمان جمال الدين الافغاني والشيخ محمد عبده، تفتحت في انحاء الشرق العربي عيون الجامدين وبدأوا يتلمسون اسرار الحياة وفهم حقائقها عن طريق الصحافة المصرية المجيدة التي كانت تجوب انحاء الكون العربي ناشرة معها بذور النهضة وشعاع اليقظة الأولى. ثم كان للعلماء والمصلحين الذين زاروا الكويت في مستهل القرن العشرين امثال المرحوم الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة المنار وتلميذ الشيخ محمد عبده فالمرحوم الشيخ محمد الشنقيطي الذي انتقل الى الزبير فيما بعد وأسس مدرسة "النجاة" فيها والشيخ حافظ وهبه المصري الذي قدم الى الكويت في بداية الحرب العالمية الثانية واستقر فيها ثم انتقل منها الى جلالة الملك المرحوم عبدالعزيز السعود فعين اخيرا لمدة طويلة سفيرا للمملكة العربية السعودية في لندن - كان لهؤلاء العلماء والمصلحين أثر محسوس في تحريك الشعور وتهيئة الاذهان، الأمر الذي هيأ للعاملين من الكويتيين ومن اولهم المرحوم الشيخ ناصر مبارك الصباح، والشيخ يوسف بن عيسي القناعي والسيد ياسين طباطبائي، الاستفادة من هذا الروح الطيب لاستنهاض همم الرجال لفتح اول معهد تدريسي في الكويت (المدرسة المباركية عام1330هـ)، لتدريس التلامذة اصول القراءة والكتابة ومبادئ علوم الحساب والهندسة والتاريخ والجغرافيا، على نمط غير معروف في الكتاتيب الكويتية الموجودة في ذلك الحين. وقد تولى إدارة المدرسة في ذلك الحين الشيخ يوسف بن عيسى القناعي مصلح الكويت الأول، حتى غضب عليه المرحوم الشيخ مبارك الصباح فتنحى عن إدارتها.
وتلى افتتاح المدرسة المباركية قيام الجمعية الخيرية عام 1331هـ بمسعى الشاب المرحوم فرحان الفهد الخالد للغايات الاصلاحية والخيرية التي تتطلبها حاجة الكويت، فكان من اساتذتها الشيخ محمد الشنقيطي والطيب التركي أسعد أفندي. وقد عملت هذه المؤسسة على تنوير الطلاب الكويتيين ورفع الغشاوة عن اعين الجاهلين والخاملين. الا ان المرحوم الشيخ مبارك توحش من عواقبها فسارع الى ابعاد الطيب التركي. ثم غادر المرحوم الشنقيطي الكويت الى الزبير متخفيا وخائفا من سطوة حاكم الكويت. فأقفلت الجمعية الخيرية أبوابها وخرس صوتها الى الأبد.
وبعد وفاة المرحوم الشيخ مبارك الصباح انتقل الحكم في الكويت الى ولديه جابر فسالم. ثم جاء الحاكم العاشر المرحوم أحمد بن جابر الصباح (عام 1339هـ) الذي كان للكويت في ولاية حكمه المديد (قرابة 29 عاما) آثارا بعيدة في التدرج والتقدم والازدهار. وقد عرف المرحوم أحمد الجابر برحابة الصدر وسعة الحلم والنفس الطويل العريض والصبر على المكاره والشدائد التي كانت تتلاشى بفعل الزمن وإنتهاج سياسة الحكمة والتعقل والروي. ولا أذكر ان الكويت أبان حكمه من كان يخشى الظلم أو يتهيب السطوة، الا انه رحمه الله كان مستسلما لما تقوله حاشيته لا سيما وزيره الأول الملا صالح الملا وغيرهم ممن لهم باع طويل في الاستغلال. وقد ازدهرت الحركات الفكرية وانطلق عقال الاصلاح والوطنية في عهده، فتم في عام 1340هـ افتتاح المدرسة الأحمدية ذات المناهج الحديثة والاساليب المستجدة في المحاورات الادبية والاحتفالات الكبيرة ذات المناظرات الشعرية وغيرها مما حبب الى الكويتيين ارسال بنيهم اليها ليتزودوا ويغترفوا من اساليبها وابتكاراتها. وكان اول من اشار بافتتاحها الشيخ يوسف بن عيسى ايضا ليعالج ما اصاب المدرسة المباركية من عقم وتخلف بسبب الادارة وتخلف القائمين على ادارتها عن مسايرة النهضات واساليب التدريس الحديثة. وكان من اكبر اساتذتها الشيخ المرحوم عبدالعزيز الرشيد مؤلف تاريخ الكويت والمرحوم عبدالملك الصالح والشيخ حافظ وهبه والشيخ محمد الخراشي وكلهم له باعه الطويل في الاصلاح والتحرر من الرجعية والجمود.
كذلك تم في عام 1341هـ افتتاح المكتبة الاهلية في جانب بيت العامر القديم حاوية أنفس الكتب والمجلدات والصحف العربية يؤمها الكويتيون من طالبي المعرفة من كل جنس، وكان يشرف على هذه المكتبة مجلس ادارة مؤلف من الشيخ يوسف بن عيسى والشيخ حافظ وهبه وسليمان العدساني ومشعان الخضير وعبدالحميد الصانع وعبدالرحمن البحر والسيد علي السيد سليمان والسيد رجب السيد عبدالله الرفاعي الذي كان يتولى الاشراف على ادارتها.
وفي عام 1342 تمخضت هذه الموجات الفكرية والمعاهد التدريسية على حركات أدبية ناشطة منها افتتاح النادي الادبي الذي كان لي شرف الفكرة الأولىفي المساعدة على قيامه. وكان هذا النادي يضم في عداد اعضائه ما لا يقل عن مائة شاب ناشئ وغير ناشئ من الكويتيين الذين تفتحت عقولهم وقلوبهم على الحياة الحرة السليمة، والقيت فيه محاضرات ادبية وتاريخية شتى مما كان دويها البعيد لا في ارجاء الكويت وحدها بل وفيما جاورها من امارات الساحل العربي. وقد تميز هذا النادي بتسهيل إلتقاء الشباب الناشئ بمن هم اقدم منا سنا وتجربة من رجالات الكويت المعروفين فتلاقت الافكار وانصهرت الآراء الوطنية. واسندت رئاسة الشرف فيه الى احد شباب العائلة الحاكمة الشيخ عبدالله الجابر الصباح لما عُرف عنه من ميل الى الادب والمتأدبين.
تلك هي النواة الأولى لليقظة الفكرية والوطنية في الكويت نشأت كما تنشأ أية حركة فكرية داخل المدارس والمعاهد الادبية بادئ ذي بدأ حتى اذا انتشرت وتعممت ثم نضجت تفتحت اعين الجماهير على حقائق الحياة الحرة ومطالبها فبدأت تتطلع الى الاصلاح وتنشد العدالة الاجتماعية درجة بعد اخرى حتى يسمو بهم الطموح الى الغاية القصوى. سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
مجلس الشورى الأول
لم يسبق للكويتيين مفاتحة حكامهم أو مطالبتهم بحقوقهم المشروعة، ذلك ان الكويتيين كانوا الى ما قبل حكم المرحوم الشيخ مبارك الصباح ينعمون بحرية واسعة لا تحدها سلطة الحكام الذين كانوا رؤساء عاديين ارتضاهم القوم لرعاية شئونهم وحل مشاكلهم بالتي هي احسن.
ولكن بعد تولي الشيخ مبارك الصباح منصة الحكم في الكويت بالصورة الجبرية بعد قتله اخويه المرحومين محمد وجراح كما هو معروف التجأ مضطرا الى تدعيم سلطانه بالقوة واخذ الامور بالعزم والحزم اللذين كانا عنوانا لحكمه الطويل المديد.
وكانت الكويت طوال حكم مبارك تزهو عجبا وخيلاء بفضل تجارتها الرائجة المحملة على اسطولها التجاري الشراعي الكثير العدد الذي كان يجوب آفاق الهند وبعض سواحل افريقيا الشرقية، بالاضافة الى مرور كثير من البواخر التجارية الاخرى القادمة اليها من الشرق والغرب، ثم ما ينقل منها من ذلك الى نجد بالقوافل (السابلة) الكثيرة العدد المتصلة الرحلات طوال ايام السنة.
وكان لنفوذ الشيخ مبارك وصولته وقوة شكيمته اثرا كبيرا في امتداد هيبته واحترام الحكومات المجاورة وغير المجاورة لحقوق رعيته وحفظ مصالحا أنى سرت وتباعدت بها السبل. فشاع اليسر والرخاء في عهده وكان ذلك تعويضا للكويتيين عما كان بعضهم منه من قسوات أو نزوات مرعبة.
لهذا لم يكن ثم ما يحفز الكويتيين على الاقدام بأية مطالب أو حقوق إصلاحية أيا كان نوعها. وقد سرى هذا الحذر والتخاذل ايام ولديه المرحومين جابر وسالم، ولكن عندما توفى سالم المذكور بعد وقعة الجهراء عام 1338هـ وكان ولي عهده المنتظر الشيخ أحمد بن جابر الصباح بصفته الاكبر من ذرية مبارك الصباح التي تعارف الكويتيون على حصر الحكم فيها وبموجب اتفاقية عقدت مع الحكومة البريطانية كان الشيخ أحمد الجابر المبارك الصباح موجودا في الرياض على رأس وفد كويتي لمفاوضة سلطان نجد عبدالعزيز السعود لإزالة الخلاف بين العاهلين المتجاورين فسنحت الفرصة للكويتيين للتداول في امورهم ونشأت في هذه الفترة القصيرة أول حركة نشيطة من وجوه الكويت واعيانها، فاجمعوا أمرهم على مطالبة أحمد بتشكيل (مجلس شورى) منهم فبعثوا اليه وفدا من كبار رجالاتهم لمقابلته في اليخت التجاري العائد من سواحل الجزيرة والراسي في الكويت قبل نزوله الى البر، ليعرضوا عليه مطالبهم. وقد اسرع اليه قبلهم رجال الحاشية يكشفون له ما أجمع عليه الكويتيون، وينصحونه بالموافقة على تلبية مطالبهم كيلا يبايعوا إبن عمه الشيخ عبدالله بن سالم الصباح الحاكم مؤقتا بالوكالة والذي يلي أحمدا في العمر من ذرية مبارك الصباح، وقالوا له فيما قالوا لا يهمك أمر الكويتيين فلسوف تدب الخلافات ويتنازعون أمرهم ويصفى لك بعد ذلك كل شئ. ولقد صدق حدسهم فإن هذا المجلس والذي لا نعلم كيف ننعته والذي تألف ارتجالا من شخصيات غير متجانسة وليس له قانون معروف لم يؤد اية خدمة للكويت، فقد عجز اعضاؤه عن توحيد نظرياتهم ورسم برامجهم فتشاحنوا واختلفوا بفعل تباين مصالحهم وفعل الدساسين من الحاشية والأذناب الذين ألفوا ان يتحكموا في رقاب الناس وابتزاز اموالهم دون رقيب او عتيد. وهكذا اصبح أمر مجلس الشورى منتهيا، فاستمر عهد الكيفية والعشائرية في الكويت على عهده الأول، لعجز المتزعمين وعدم اخلاص بعضهم في خدمة الكويت الخدمة الخالصة المجردة. وقد سبب هذا الفشل وفقدان الثقة بين الكويتيين وكبار رجالاتهم التهاون في المطالبة بالاصلاح سنوات عديدة كان الناس فيها يضجون من تحكم الحاشية والأذناب في شئونهم والعبث بمقدرات الكويت حتى وصل بهم الأمر الى العبث بالاحكام الشرعية والعرفية وغير ذلك من الشئون التي لم يكن الحاكم على علم منها.
مجلس البلدية ومجلس المعارف
مجلس البلدية الأول والثاني والثالث والرابع
قيام مجلس المعارف الأول فمجلس المعارف الثاني
قبيل عام 1930 توحدت بعض المساعي المخلصة من العناصر الجديدة النشيطة في الكويت ففاوضت حاكمها المرحوم الشيخ أحمد جابر الصباح عن حاجة الكويت الى قيام مجلس بلدي منتخب من الاهالي للاشراف على تنظيف الكويت وتجميلها على غرار المجالس البلدية فارضين ضريبة تجبى من اموالهم الواردة من طريق البحر بمقدار نصف في المائة من اصل ثمن كل بضاعة قادمة للكويت بالاضافة الى الرسم الجمركي المعتاد والبالغ مقداره اربعة في المائة الذي كان يجبى لمصلحة الحكومة والذي لم يكن يصرف منه أي شئ للخدمات العامة. وبهذه التضحية سهلوا على حاكمهم قبول الطلب المتواضع رغم ما حاولت الحاشية لدى الحاكم من جهود من لتثنيه عن قبول الطلب خوفا منها ان يكون للكويتيين باسم هذه الضريبة اشرافا على الواردات الجمركية الاخرى التي كانوا يتقاسمونها دون معرفة الحاكم. فلما أعياهم الأمر نصحوا الحاكم ان لا يوافق على تعيين المجلس موظفا خاصا لجباية ضريبة البلدية في ادارة الجمارك وانما يكتفي بأحد موظفي الجمارك القدامى لجباية ضريبة البلدية ضمن ضريبة الجمارك الأصلية وترسل الى المجلس كل نهاية شهر، وهكذا كان.
وقد اقتنع الكويتيون بهذه الموافقة من الأمير واعتبروها فوزا لهم فأجتمع خمسون من سراتهم لانتخاب اثني عشر عضوا لمجلس البلدية الأول، ففاز كل من يوسف بن عيسى، مشعان الخضير، سليمان العدساني، سيد علي السيد سليمان، محمد أحمد الغانم، نصف بن يوسف، السيد زيد سيد محمد، حمد الداود المرزوق، مرزوق الداود البدر، مشاري الحسن البدر، أحمد معرفي، يوسف الحميضي لعضوية المجلس البلدي الأول في الكويت، ثم انتخب هؤلاء سليمان العدساني من بينهم ليكون مديرا للبلدية. وقد اسندت رئاسة الشرف للمجلس البلدي الى الشيخ عبدالله الجابر الصباح بصفته عضوا بارزا في العائلة الحاكمة ليكون لمقررات البلدية واحكامها حرمتها المصونة عند العموم .
وفي المجلس البلدي الأول بدأ الاحتكاك الأول بين بعض رجال القصر من الحاشية والمرتزقة وبين أعيان الكويتيين من أعضاء المجلس البلدي يتجلى تدريجيا. إذ لم يألف الحاكم قبل تشكيل المجلس البلدي أي أمر او حركة تصدر بدون استشارته او نزولا عند حكمه سلفا. ولكن أعضاء المجلس البلدي كانوا من الحكمة والاخلاص بحيث استطاعوا تجنب إغضاب الأمير مع عدم التفريط بالحقوق التي اؤتمنوا عليها. فجعلوا يتعاونون على إقناع الأمير وترغيبه باعمال الاصلاح التي يستنها المجلس وأخذه بالحسنى كما أظهر الأمير بداية تأسيس البلدية رحابة صدر واسعة وتسامح محمود فسار العمل بالاصلاح البلدي شوطا حسنا رغم كثرة المشاكل التي كان مقدرا لها ان تنشأ بطبيعة الاحوال في كل عمل إصلاحي لم يألفه الناس ولم يروضوا أنفسهم على الرضوخ لاحكامه.
ولقد كان المجلس البلدي محكا صحيحا لاختبار رجالات الكويت من اعضائه ومدى نزاهة أو شجاعة كل منهم تجاه الخدمة العامة وتجردهم من الاغراض والاهواء الذاتية، كما تم بهذا المجلس ايضا خلق النواة الأولى للحركات الوطنية من التالية من بين من ائتلفت نفوسهم وتوحدت اهدافهم حيث تعارفوا بعد طول تجربة وكثرة اختبار، إذ كان المجلس البلدي لكثرة الشئون المناطة به بمثابة برلمان صغير يتجلى فيه العمل المثمر، كما استبان للناس من خلال المواقف المتعددة نفسية كل عضو منهم ومدى حرصه على المصلحة العامة المجردة.
وقد انتهت الدورة الأولى للمجلس البلدي ومدتها سنتان وحان موعد الانتخابات للدورة الثانية، فدُعي مائتا ناخب كويتي من المعروفين لانتخاب أعضاء المجلس البلدي الثاني حيث فاز كل من: السيد علي السيد سليمان، مشاري الروضان، مشعان الخضير، خليفة الشاهين الغانم، يوسف الصالح الحميضي، السيد زيد سيد محمد، يوسف بن عيسى القناعي، مشاري حسن البدر، حمد الداود المرزوق. وفاز بكرسي ادارة البلدية بالانتخابات للمرة الثانية المدير الأول سليمان العدساني بكافة الاصوات باستثناء صوت العضو نصف اليوسف النصف الذي كان يهيئ نفسه لمديرية البلدية.
وقد تميز هذا المجلس عن المجلس الأول بظواهر كثيرة اولها ان التفاهم كان تاما هذه المرة بين من يعنون بالخدمة العامة بدون ان يتأثروا بضغوط رجال القصر من الحاشية والمتنفذين وهؤلاء هم الاغلبية الساحقة في المجلس، كما ان الاحتكاك الخفيف الأول بين السلطة والمجلس البلدي بدأ بفضل دسائس المتنفذين من رجالات القصر يتحول الى توتر مستمر تغذيه دسائس المرتزقة والافتراءات والوقيعة يقابله من الجانب الآخر الشجاعة والايمان والمثابرة. وقد كُتب للجانب الوطني ان يفوز مرارا عديدة وان يتخطى دسائس الدساسين ومكر العابثين.
وقد كان هذا الصراع يجري في داخل المجلس في صورة مجادلات عادية واختلاف في وجهات النظر، الا انه في حقيقة الأمر صراع حول المبادئ والوسائل الشريفة، اذ كان في المجلس من يتزلف الى الحاشية ان لم نقل ويتآمر معها لعرقلة سير الاصلاح وسد الطريق على العاملين المخلصين. وقد ترك هذا النزاع المستمر اثرا محسوسا في نفس الأمير الذي كان رغم سريرته الطيبة وحبه للخير مستسلما ومصغيا لاقاويل المتنفذين من رجال قصره وأنفذهم المرحوم ملا صالح الملا رئيس كتابه الأول والمهيمن الوحيد على كافة شئون الكويت ودوائرها رغم ما عرف عنه
(..) واقتسامه الواردات الحكومية مع بعض موظفي الجمارك وغيرهم ممن كانوا يخشون مكانته النافذة وكلمته المسموعة لدى الحكام.لقد كان اساليب المرحوم ملا صالح الملا انه كان يلفق بعض الكتابات ضد بعض الموظفين بتوقيعات مختلفة تستدعي النصح للأمير ويضمنها آخر هفوات أو سقطات أو تلاعبات ذلك ثم يستدعى ذلك الموظف ويعرض عليه ذلك الكتاب مدعيا انه ورد اليه ببريد الأمير فحجزه لديه كيلا يطلع الأمير على ما فيه وبهذه الكيفية يستدر من الموظف الخائف ما يشاء ويتحصل منه على شكره في نفس الوقت.
وشيئا فشيئا تولد في نفس الأمير الحذر فالنفور فالكراهية من رجالات البلد والعاملين المخلصين من اجلها، وذلك كله بسبب ما كان يولده المنتفعون الذين يريدون لقافلة الاصلاح وركبه ان يتعثر. وقد عرف الكويتيون كل ذلك بالتدريج وميزوا بين مواقف الرجال من أعضاء الجلس البلدي واعمالهم، فمنهم وهم الاكثرية التي كانت متفاهمة تماما في وجوب التقدم بالاصلاح والمطالبة به على الوجه الصحيح السليم دون مبالاة ولا مسايرة للملا صالح ورغباته ومنهم من كان يتزلف اليه أو حتى يبيت معه بعض المناورات لافساد الجو وتعكيره على العاملين المخلصين.
واليك صـــورة سريعــة مقتضبة عن هوية كل من أعضاء المجلس البلدي كما رأيتـها ولمستها، ولست ازعم لنفسي فيما ارى العصمة من الخطأ.
الشيخ يوسف بن عيسى
رجل دين وخير يشايع الاصلاح بصورة عامة ولكنه مضطرب المواقف في مواجهة السلطة وحاشيتها على الدوام.مشعان الخضير، سليمان العدساني، السيد علي السيد سليمان الرفاعي، السيد زيد السيد محمد الرفاعي
هؤلاء تجمعهم وحدة الفكرة والمبدأ يتصفون بالجرأة ونكران الذات، ويؤيدهم بصورة عامة كل من خليفة بن شاهين الغانم، مشاري الحسن البدر، حمد الداود المرزوق، يوسف الصالح الحميضي.محمد الأحمد الغانم
من الشباب الوطني النابه يشايع الاصلاح دائما الا انه واخوته كانت لهم مصالح تجارية كبيرة مرتبطة مع شركة النفط B.P. تضطرهم احيانا الى مداراة الملا صالح الملا، فضلا عن ارتباط محمد بصداقة قوية مع العضو نصف اليوسف النصف الذي كان يتعاون مع الملا صالح على طول الخط.نصف اليوسف النصف
من عائلة كبيرة بارع الرأي والدهاء كان يرشح نفسه لكرسي مديرية البلدية في الدورة الثانية لمجلس البلدية، فلما خسر الكرسي عمد الى مسايرة الملا صالح الملا ضد مدير البلدية القائم وعضو المجلس البلدي سليمان العدساني والوقوف ضد بعض مشاريع الاصلاحية ومحاولة اكتساب ود السلطة (ليعذرني الصديق الكريم السيد نصف فقد آثرت أن أترك كل كتابة قديمة لي في هذه الصفحات كما سطرت في حينها -مع بعض التشطيب- غير ناس اطلاقا لهذا الرجل الكفء مكانته البارزة في المجتمع الكويتي، بل اكثر من ذلك فلقد تطورت مع الزمن -بعد تطورات الاحداث- آراء الرجل وتبلورت افكاره الوطنية حتى اصبح من الدعامات القوية التي لا يستغنى عنها في حركات الاصلاح والتنظيم في الكويت كما اتضح ذلك في عهود التنظيم والمجلس المشترك)، كل ذلك من أجل تأييدهم لكرسي البلدية في المستقبل كما وضح ذلك في دورة المجلس البلدي القادمة.مشاري الروضان
شيخ طيب مُسن غير انه من العقلية القديمة التي ليس لديها المام في معالجة الشئون العامة، ينقاد دائما الى آراء وتعليمات الملا صالح الملا وابن اخته السيد نصف اليوسف النصف.الشيخ عبدالله الجابرالصباح
الرئيس الفخري الدائم المختار من قبل الحاكم فقد كان بطبيعة الحال يمثل الجانب الحكومي في المجلس لا سيما وانه ايضا المعين من قبل أمير الكويت لرئاسة المحكمة ومباشرة تنفيذ جميع الاحكام في الكويت. ولهذه الاسباب ولكونه العضو البارز من أفراد العائلة فلقد كان تأثيره واضحا في تنفيذ مقررات المجلس البلدي والتأثير المحسوس على بعض مقرراته.تلك هي حقيقة الحال في المجلس البلدي الثاني آثرت الاشارة اليها مفصلا لكي يتضح لقارئ هذه الصفحات الوجيزة كيف تدرجت المحركات الاصلاحية والوطنية الهامة في الكويت وما كان لعلاقة هذه الشخصيات ومواقف كل منها من الآخر فيتكون لديه صورة مقتضبة أو كاملة عن بعض الوجوه والاحوال .
المجلس البلدي الثالث
وتصرمت دورة المجلس الثانية، وابتدأ الاستعداد لاجراء انتخابات البلدية للدورة الثالثة وظهر واضحا في طلائع انتخابات هذه الدورة عن استعدادات كبيرة تتهيأ لها السلطة وينشط بها الملا صالح الملا لمصلحة نصف يوسف النصف وانصاره واخواله فكان يرسل على بعض الناخبين الذين يظن بهم الطاعة له والخوف منه فيستكتبهم ورقة الانتخابات الخاصة بهم كناخبين في محل ادارته الرسمية ثم يرسلها مع خادمه على المكشوف ليضعها في صندوق الانتخابات الموضوع خارج مقر المجلس البلدي
(كانت انتخابات مجلس البلدية وكل مجلس آخر مثله كمجلس المعارف وقتها تجري ببساطة ويسر، اذ توزع ما يتراوح عددهم بين المائتين أو الثلاثمائة ناخب من وجوه الكويت المعروفين من مختلف الاجناس والعائلات اوراق الانتخابات يكتب بها الناخب اسماء اثني عشر ممن يختارهم لعضوية المجلس البلدي ثم يرسل أو يضع هذه البطاقة في صندوق الانتخابات وبعد فترة سبعة ايام تفرز هذه الاسماء باشراف هيئة مختلفة مؤلفة غالبا من (الشيخ يوسف بن عيسى، أحمد الحميضي، أحمد بن خميس، عبدالله الساير، موسى المزيدي وبرئاسة رئيس مجلس البلدية الدائم) . اما من يلي هؤلاء من الفائزين بأكثرية الاصوات فيستبقون احتياطا لاي شاغر يطرأ في عضوية المجلس البلدي . ويجري بعد هذا انتخاب مدير البلدية شريطة ان يكون من أعضاء المجلس الفائزين . ولقد كانت هذه الطريقة البدائية صالحة قبل ان تؤثر بها الاغراض والتدخلات العابثة، فلما تميزت الاهواء وتشعبت المقاصد صار من الممكن التأثير على الناخبين الذين يتأثرون بالاغراء أو الضغط لكتابة بطاقة انتخابهم كما صنع الملا صالح مع كثير منهم) وقد اثارت هذه الصورة شبه الجبرية من الملا صالح الملا التي كان يزعم انها برضاء سمو الأمير وموافقته على بعض الناخبين ضجة محسوسة بين جمهرة الكويتيين فتواصلوا على احباطها ومقاومتها وتبرع بعضهم للطواف على الناخبين والدعاية لمناصري مدير البلدية سليمان العدساني من رفقه الأولين فكتب لهؤلاء جميعا النجاح والفوز التام بصورة لم يعهد لها مثيل. وهذه اسماء الفائزين حسب ترتيب الاصوات: سليمان العدساني، مشعان الخضير، يوسف بن عيسى، السيد علي السيد سليمان، سيد زيد السيد محمد، خليفة بن شاهين الغانم، مشاري الحسن البــدر، يوسف الصالــح الحميضي، مشــاري الروضان، نصف اليوســف النصف، محمد أحمد الغانم، ويليهم الاحتياط الحاج محمد الشايع خال السيد نصف ايضا والسيد محمد العسعوسي من اصدقاء السيد يوسف.وبهذا اصبح الفوز بكرسي ادارة البلدية مضمونا بصورة قاطعة للمدير سليمان العدساني حيث ان كافة الأعضاء باستثناء مشاري الروضان، محمد أحمد الغانم، نصف اليوسف مصممين بالحصول على تصويته له، فلما يئس الملا صالح من فوز السيد نصف بكرسي ادارة البلدية بالطريق المشروع اوعزوا الى رئيس البلدية بتأجيل دعوة الأعضاء لانتخاب المدير يومين آخرين ريثما يبتوا انفسهم على أمر، وفعلا فقد ركبوا متن الشطط إذ صدر في اليوم التالي كتابان من سمو حاكم الكويت احدهما يقضي باقالة العضو السيد زيد السيد محمد لكونه يحمل جوازا عراقيا متناسين انه قضى دورتين كاملتين عضوا في مجلس البلدية وان بعض المجالس البلدية لا تشترط المواطنية لكافة اعضائها علما بأن السيد زيد كان ابنا عن جد مواطنا كويتيا اضطر لحمل الجواز العراقي لتيسير الاجراءات التي تتطلبها ادارة نخيله الكثيرة في البصرة، والكتاب الثاني باقالة الوطني الصميم مشعان الخضير بحجة واهية جدا هي انه لم يوافقهم على التعهد خطيا!.. بعدم مغادرة الكويت اطلاقا اذ كانوا يعلمون اضطراره الى السفر الى البحرين اثناء موسم المتاجرة باللؤلؤ متناسين ان السيد مشاري الروضان هو الآخر من كبار تجار اللؤلؤ الذين لا يمكنهم البقاء في الكويت اثناء الموسم.
وبهذه اللعبة المكشوفة اسقطوا للسيد سليمان العدساني صوتين من اصوات انصاره واكسبوا السيد نصف صوتين جديدين من مؤيديه الذي كان دورهم احتياطيا ليحلا محل العضوين المقالين كما فصلنا القول وهما الحاج محمد الحمود الشايع خال السيد نصف والسيد محمد العسعوسي صديق السيد نصف، وبذلك ضمن السيد نصف. اما الشيخ يوسف بن عيسى فقد بعث الى الشيخ عبدالله الجابر رئيس المجلس بورقة اعتذار عن حضور الجلسة قال فيها "انا لا أحضر هذه الجلسة لكونها غير شريفة".
وهكذا اضطر سليمان العدساني الامتناع عن حضور جلسة الانتخابات رافعا استقالته الى أمير الكويت من كرسي ادارة البلدية الذي بقى له فيه يوما واحدا ولسان حاله يقول "بيدي لا بيد قصير".
وبهذا انكشف للكويتيين جميعا بعد هذه الفعلة الغريبة من هم الذين كانوا يقفون سنوات طويلة في الدفاع عن مصالحهم ضد تلاعب المتلاعبين من المرتزقة وأذناب السلطة من الحاشية والمتنفذين. وكان من اثر هذا الاستخفاف بمشيئة الناخبين والتزييف المتعمد في ارادتهم ان زال بعد ذلك اثر الصبغة والرقابة الاهلية عن المجلس البلدي فتحكم المتحكمون في اصدار القرارات التي تعجبهم وعدم الاخذ بالاكثرية الا في التافه من الامور. وهكذا خسر الكويتيون في لعبة ساخرة حقا حقوقهم التمثيلية. كل ذلك من اجل ماهية متواضعة لا يتجاوز قدرها مائة واربعين ربية (أي اقل من خمسة عشر دينارا) راتب مدير البلدية حينذاك.
مجلس المعارف الأول
تسربت الحركات الفكرية والثقافية الى الكويتيين بفضل توسع اتصالهم المستمر في البلاد العربية الناهضة وبدأ سوادهم يتذمر لعدم مسايرة الكويت للنهضات العربية في البلاد التي بدأت تسير في طريق الصحة والحياة وادركوا ان سبب هذا التخلف انما يعود لحرمان الكويت من وجود مؤسسة معارف قوية تشرف على التعليم والمدارس وتنفق وتوجه عن سعة. لهذا بدأ قادة الرأي فيهم يدعون الى وجوب قيام مؤسسة معارف مستقلة ذات ميزانية ثابتة، ولما كانت خزينة الدولة ضعيفة أو كانت وقتها لم تألف القيام بالانفاق على أي خدمات أصلية عامة شأن كل الامارات البدائية ادركوا ان سعيهم في الحصول على موافقة الحاكم لتخصيص ميزانية خاصة بالمعارف سيذهب سدى ما لم يخصصوا هم من اموالهم ما يقوم بسداد النفقات فتوافقوا مع الحاكم على فرض ضريبة خاصة تجبى على البضائع الواردة بحرا قدرها نصفا بالمائة كما صنعوا عندما اقنعوا السلطة لدى تأسيس ادارة البلدية، وكان من اكبر الدعين والمتحمسين لهذا الغرض الشاب الناشئ عبدالله نجل المرحوم حمد الصقر مثري الكويت الكبير وكذلك السيد محمد أحمد الغانم، وذلك بسبب كثرة اتصال هذين الشابين بالعراق الذي كان حينذاك يلتمع بحركات النهضة الثقافية والقومية العربية تلفه من كل جانب.
ولكن السلطة تلكأت حتى في تلبية هذا الطلب حيث كان المرحوم ملا صالح واعوانه يوحشون الأمير من قيام مجلس معارف. ولكن بعد عامين من شيوع هذه الفكرة والترويج لها تقدم السيد محمد أحمد الغانم للكلام باسم احرار الكويت فتحدث الى صديقه إذ ذاك الشيخ عبدالله الجابر الصباح المتصرف باسم أمير الكويت وبعد معالجات وتوسلات اقتنع سمو الأمير وأمر بانتخاب أعضاء لمجلس يشرف على تأسيس المدارس والانفاق عليها وتوجيهها. فتم ذلك وفاز كل من الآتية اسمائهم بعضوية (مجلس المعارف الأول) وهم:
(عبدالله حمد الصقر، يوسف بن عيسى، خليفة بن شاهين الغانم، سليمان العدساني، مشعان الخضير، السيد علي السيد سليمـان الرفاعي، مشاري حسن البدر، محمد أحمد الغانم، نصف يوسف النصف، أحمد خالد المشاري، سلطان ابراهيم الكليب، يوسف عبدالوهاب العدساني).
وقد حاول الملا صالح الملا التدخل هذه المرة ايضا بإرجاء موعد اجراء الانتخابات التي بوشر فيها فعلا ليتسنى له التأثير على نتائجها بوسائله المعروفة ايضا غير ان جميع محاولاته باءت بالفشل بسبب حماس اعيان الكويت واحرارها الذين رأوا تلافيا لحدوث ما قد يحدث في الانتخابات لمجالس البلدية الاخيرة ان تقتصر الدعوة على خمسين ناخبا من كبار وجوه الكويت المعروفين يحضرون جميعا ساحة المدرسة المباركية في ميعاد محدد فيدون كل منهم في بطاقة الانتخاب المهيئة لهذه الغاية اسماء اثني عشر شخصا يختارهم لعضوية مجلس المعارف ثم يصار الى فرز الاصوات مباشرة من قبل لجنة مختارة.
وقد التئم مجلس المعارف الأول لاول مرة في المدرسة المباركية عام
(..) وانتخب الشيخ عبدالله الجابر الصباح رئيس شرف ايضا. وفي جلسة ثانية اتخذوا قرارهم بجلب مدرسين لائقين من احدى البلدان المجاورة، واقرت الاكثرية جلبهم من العراق حيث رأوا من الافضل تطبيق المنهاج التدريسي العراقي في المدارس الكويتية كيما يتسنى لخريجي المدارس الابتدائية في الكويت القبول في المدارس الثانوية العراقية في بلد شقيق مجاور لا يكلف الطالب الكويتي نفقة باهظة او سفرا بعيدا.فلما رفع الأمر الى المرحوم الشيخ أحمد الجابر الصباح أمير الكويت ابى الموافقة وأشار بجلب المدرسين من الديار المصرية سيراجع سموه عنهم في ذلك محمد رفعت سكرتير المحفل الماسوني في مصر
(ادخل على ما نرى لسموه هذه الفكرة مرافقهُ السيد عزة جعفر الذي قدم معه من مصر هناك بتوجيه من محمد رفعت).ولكن غالبية أعضاء مجلس المعارف عارضوا في ذلك معارضة قوية، لان جمهور الكويتيين ينفرون من الماسونية فضلا عن احتجاجهم بفداهة الماهيات التي يتطلبها المدرسون القادمون من مصر في بلد ناء كالكويت، وعرضوا على سموه ان يختار بين جلب مدرسين من العراق أو من فلسطين على ان يوصي عليهم مجلس المعارف نفسه وإلا فأنهم جميعا سيستقيلون. غير ان الشيخ يوسف وحده كان يقول لا بأس من الاكتفاء بمدرسين كويتيين للتدريس في مدارس الكويت، رغم ان الجميع يعلم ان المدرسين الكويتيين الموجودين حينذاك غالبيتهم لا تحسن سوى تدريس القراءة والكتابة وبعض مبادئ علم الحساب.
وقد جاهد رئيس المجلس الشيخ عبدالله الجابر في اقناع سموه بوجهة نظر المجلسيين فنال موافقته اخيرا وهو يقول: "لا بأس من جلب مدرسين من فلسطين ولكن قُل لرفاقك انه متى حدث أي أمر فان المسئولية ستلقى عندئذ على عواتقهم".
واهتبل أعضاء المجلس هذه الموافقة الغاضبة، وبعثوا فوراً رسالة مسجلة الى الزعيم الحاج أمين الحسيني الذي كان اذ ذاك رئيسا للمجلس الاسلامي الاعلى في القدس يرجون منه ان ان يختار لهم اربعة مدرسين ومديرا لتنظيم المدارس الابتدائية في الكويت والتدريس فيها، وقد وصل هؤلاء ما عدا المدير الذي عرقلت السلطات الانجليزية جواز سفره لاسباب سياسية واستبدل بالسيد (أحمد شهاب الدين) الذي سمي (بمدير المعلمين) والبقية السيد خميس
(..) مدرس التاريخ (..) وجابر (..) مدرس الرياضيات (..) ومحمد المغربي مدرس اللغة الانكليزية والرياضة، ثم في السنة الثانية جُلب المدرسان عبداللطيف الصالح محمود نجم وهما من فلسطين ايضا.وقد أوكل مجلس المعارف للشيخ يوسف بن عيسى النظارة على المعارف وسمي ناظرا لمعارف الكويت.
وقد اظهر هؤلاء الاساتذة القليلون نشاطا ممتازا وتنظيما طيبا في انشاء المدارس الابتدائية في الكويت على غرار المدارس الابتدائية في العراق وسعوا بالتلامذة الكويتيين سعيا حثيثا في تعوديهم على النظام وتدريبهم على الحركات الرياضية السويدية والكشفية فبعد لاي ألف الكويتيون رؤية بنيهم يسيرون بملابس الكشافة ذات السراويل القصيرة التي تعري ما تحت الركبة ويزمرون بموسيقاهم وينقرون على الطبول في شوارع الكويت وساحاتها وكان عندهم قبل جميع ذلك من اعظم المحرمات واكبر الكبائرا.. وقد اثبتت الحقبة التي قضاها هؤلاء الاساتذة واخوانهم الذين جاؤوا بعدهم من فلسطين على ان المدرسين الفلسطينيين وما هم عليه من دماثة وطيبة عنصر من انسب الناس لتولي مهمة التدريس في بلد كالكويت تغلب على سكانه روح البساطة والتمسك بالدين والتقاليد السلفية.
وكان مجلس المعارف يجتمع مرة واحدة كل اسبوع للنظر والتداول فيما يطرأ من شئون أو يناقش وجوه الانفاق والتحسينات المطلوبة وغير ذلك من الامور المتوجبة، وكانت تنشب الاختلافات في الرأي حول نوعية الترتيبات أو الاصلاحات المطلوبة، خاصة وقد كان الأعضاء يختلفون في العقلية والادراك اختلافا واضحا، الا ان ذلك كان يسوى جميعا في النهاية بروح الود والتسامح.
وقد نبهت هذه الاختلافات وتكررها في وجهات النظر الأعضاء الى وجوب سن نظام أو قانون لمجلس المعارف يرسم الاصول والاسس التي يجري عليها مجلس المعارف وكُلفت انا والسيد أحمد شهاب الدين (مدير المعلمين) بوضع النظام أو القانون المطلوب على اثر خلاف نشب داخل المجلس فى مدى ومدة احترام القرارات التي يصدرها المجلس بالاكثرية.
فقد كان الشيخ يوسف بن عيسى ومعه بعض الأعضاء يرون ان للاكثرية دائما الحق في نقض اي قرار سبق ان اقره المجلس دون التقيد بزمن او دورة معينة، بينما يرى الآخرون ضرورة احترام اي قرار لمدة لا تقل عن ستة اشهر ثم يصح بعد ذلك لاكثرية اخرى ان تنقضه او تعدل فيه كيلا يتأتى من جراء الابرام والنقض اية بلبلة او ارتباك في سير المعارف.
وفعلا انجزنا نحن الاثنين في مدة وجيزة وضع مسودة (قانون المعارف) وحددنا صلاحيات كل من رئيس المعارف ومدير المعلمين، كما جعلنا حداً معقولا لاشراف مجلس المعارف على الامور الادارية. فاما القرارات فقد جعلنا لثلثي الأعضاء الحاضرين في جلسة قانونية حق نقض أي قرار سبق للاكثرية ان اقرته متى شاءت تلك الاكثرية بالثلثين، اما الاكثرية العادية فيجوز لها نقض او تعديل اي قرار سابق بعد مضي ستة شهور من تاريخ اقراره. ولكن مسودة القانون ما كادت تعرض على المجلس في الاسبوع التالي من وضعها حتى تلبدت في الجو غيوم وعواصف تنذر بالشر يبيتها المبيتون تشبتا ببعض الخلافات البسيطة السابقة لهدم انفع مجلس معارف تجمعت فيه اكثرية من اخلص الرجال الذين عرفتهم الكويت قبل وبعد ذلك التاريخ، مما زعزع الصرح المشيد لهذه المؤسسة الى اجل يعلم الله مداه. اما الاسباب فنسردها هنا للعبرة والتاريخ وهذا ملخصها:
في منتصف العام الدراسي الأول تقدم بعض مدرسي الصفوف الأولية من المدرسين الكويتيين الى مجلس المعارف بعريضة يطالبون فيها زيادة رواتبهم الشهرية ولما عرض هذا الطلب عارضه بعض الأعضاء محتجين بانه ليس من الاصول المعروفة النظر في تعديل شئ من الرواتب خلال اشهر الدراسة لان ذلك قد يخلق بعض الاختلافات مع طالبي الزيادة من المدرسين ويحرض الآخرين على التقدم بنفس الطلب مما قد يؤول أمره الى حدوث ارتباكات تؤثر على سير الدراسة والمدرسين خاصة وان ميزانية المعارف المتواضعة لاتحتمل غير الاقتصاد والتدبير لمقابلة الانشاءات التي تتطلبها المدارس في بداية العهد الجديد، ووعدوا كافة المدرسين باعادة النظر في رواتبهم في نهاية العام الدراسي، غير ان الفريق الآخر من الأعضاء وفيهم الشيخ يوسف ونصف اليوسف وأحمد المشاري وسلطان الكليب كانوا يرون الاستسلام وتلبية تلك الطلبات بالنظر لقلة رواتب المعلمين المحليين.
ومع ان هذا الخلاف كان من الامور الممكن حلها بطريقة او اخرى الا ان الأمر تأزم واشتد الى درجة تعذر معها الحصول على التفاهم لا سيما وقد لابس هذا الخلاف ظروف وعوامل شتى اخرجته عن طبيعته الاصلية، وبالرغم من وجود بعض حسني النية من الفريق المحبذ للزيادة الا ان فريقا آخر منهم تظاهر بمناصرة هذا الطلب تدجيلا وتأثيرا على البسطاء بحجة الغيرة على المدرسين الكويتيين، مما سبب نفور الآخرين من الأعضاء فحصل بين الفريقين آثار وانطباعات سيئة تعذر محوها.
وقد اهتبل هذه الفرصة الملا صالح وجماعته فحرضوا الناس وبعض الشباب ومنهم شابان كانت لهم حزازات غرضية مع مجلس المعارف لاسباب معينة منعهما من اجلها من دخول المدارس فاستغلوها حملة شعواء ضد أعضاء المجلس المعارضين للزيادة، فكتبت بعض الكتابات السفيهة على حيطان البيوت وبعض الابواب تحض الجماهير على مقاطعتهم والتنفير منهم، ثم روجوا فكرة كتابة عريضة هيأها الملا صالح سرا ثم دفعها الى الشابين المذكورين مرفوعة الى حاكم الكويت للطواف بها على الجمهور الناقم والتوقيع عليها يلتمسون فيها حل المجلس الحالي دون توضيح الاسباب الموجبة.
ولما حان موعد انعقاد الجلسة القادمة لمجلس المعارف وفتحت الجلسة تلى الرئيس الارادة الأميرية القاضية بحل المجلس، فطلب كثير من الأعضاء من رئيس المجلس توضيح الاسباب التي استند عليها كاتبوا العريضة، وقالوا انه بدون الاسباب المبررة للحل والتي يجب ان تستند عليها كل ارادة من هذا القبيل يكون واضحا ان السلطة هي التي دبرت هذه الحركة المفتعلة لغاية في نفس يعقوب والا فكيف يحل مجلس نظامي انتخب اعضاؤه بصورة شرعية لا مطعن فيها لاسباب غير معروفة.
فرد رئيس المجلس قائلا: "ان الارادة الأميرية صدرت بحل المجلس وانه لا يملك معها شيئا ولا يعلم حتى ما هي الاسباب!".
وعندئذ نهض كل من العضوين مشعل الخضير الخالد ثم السيد علي السيد سليمان وقالا ما معناه: "اما وان المهيجون المغرضون لم يستطيعوا اتهامنا نحن او رفاقنا باي مخالفة او تقصير نحو الواجبات الوطنية المطلوبة منا فانا جميعا نحمد الله جل شأنه على ذلك، اما هذه الحركة المدبرة التي نعرف جيدا مصادرها والباعث عليها والتي تستهدف في الدرجة الأولى شل حركة الاصلاح ومحاربة المصلحين فاننا نستهجنها ونعدها من اشنع الوسائل لعرقلة الاصلاح والتقدم، وما دامت السلطة تتحدى العاملين استنادا على القوة فقط وحدها فاننا لا نرى فائدة بعد الآن من التعاون معها وفي اي مجال كان، ولذلك فاننا نعلن هنا استقالتنا نحن ورفاقنا الذين هم أعضاء في المجلس البلدي
(أي سليمان العدساني ومشعان الخضير وخليفة بن شاهين ومشاري الحسن والسيد علي السيد سليمان وجميع هؤلاء كانوا أعضاء في المجلس البلدي وفي مجلس المعارف) من ذلك المجلس ولا يمكن لنا ما لم تصلح الاحوال من الاسهام في اي تعاون مع السلطة في دائرة اخرى".ولما حاول العضو السيد نصف اليوسف الكلام لاقناع المذكورين بالعدول عن استقالتهم في مجلس البلدية قائلا: "ان البلدية شئ ومجلس المعارف شئ آخر"، اسكتوه غاضبين وقالوا: "انهم يدركون جيدا مصدر تلك المؤامرات التي تدبر ضدهم". ثم انفضت الجلسة على اثر ذلك.
اما السلطة فانها أمرت حالا باجراء انتخابات جديدة لمجلس المعارف الثاني ولكنها حددت هذه المرة عدد من اعضائه بستة بدلا من اثني عشر وفرضت الشيخ يوسف بن عيسى (مديرا للمعارف) وعضوا معينا فيه، وانتخب للمجلس كل من (أحمد الحميضي، أحمد المشاري، نصف بن يوسف، سلطان الكليب، عبدالرحمن البحر، عبدالمحسن الخرافي).
وهكذا جعل الشيخ يوسف من قبوله بالتعيين للعضوية وللادارة موضع الشك والريبة فأقر بذلك حق السلطة في تعيين من تشاء وهي سابقة خطيرة كان الكويتيون يحاولون اتقاءها بكل وسيلة لان الاعتراف بحق التعيين للسلطة وهي مستسلمة للمغرضين من الحاشية والأذناب يجعل جميع مثل هذه المؤسسات النافعة التى كافح الكويتيون على قيامها واستقلالها لعبة لاعب، كما ان هذا التسليم الصامت من الشيخ يوسف بن عيسى وهو الرجل ذو المكانة المرموقة بل رضائه عن حل المجلس واقتصار عدد اعضائه على ستة بدلا من اثني عشر الأمر الذي كان ينادي به دائما عندما اشتد الخلاف بينه وبين الفريق الآخر، كل ذلك يدعو للأسف والحزن الشديد.
اما مجلس البلدية فبعد استقالة فريق (الكتلة المتفاهمة) من عضويته رفض الاحتياطيون الأولون الفائزون بكثرة من الاصوات تلي اصوات الأعضاء قبول عضويته التي تحق لهم بالتسلسل وهم: يوسف عبدالوهاب العدساني، خالد الزيد الخالد، عمر العلي العمر ثم براك الخميس، وذلك مشاركة منهم بالاحتجاج على حل السلطة لمجلس المعارف دون تبرير الاسباب.
كذلك فان الرفاق الاحرار اعتزموا التخلي عن كل عضوية لهم في أي مجلس او هيئة عامة فاستقالوا حتى من عضوية (مجلس مكتبة المعارف) التي اقاموها بهمتهم ليفسحوا ميدان العمل للمتقدمين وليتيحوا ايضا الفرصة للناس جميعا من المخدوعين والمضللين تبين الصالح والطالح من الرجال ومدى استعداد كل فريق للعمل والتضحية في اداء الواجب وخدمة الكويت.
وقد كشف المستقبل السريع اصالة هذا التدبير وسلامته اذ كانت الايام القليلة القابلة بالرغم من قصر امدها كفيلة برفع الغشاوة عن اعين الجمهور المنخدع، وتبين للكويتيون ان لا صلاح حقيقي يرجى في الكويت ما لم تكن هذه الصفوة المختارة من الرجال المتآخين المتساندين في سبيل الاصلاح هي العامل الاساسي فيه، كما ظهر مع الايام ان بعض من استشاموا فيهم الخير ليسوا إلا آلات مسخرة لا يهمهم الا التقرب من السلطة وأذنابها بغية النفع والزلفى.
هذه هي الظروف التي بدأ فيها الشباب الناشئ يغربل ويميز صنوف الحوادث وقيم الرجال. وقد برز خلال هذه الفترة الهامة شابان من أقوى شباب الكويت وأمتنهم عقيدة واستقامة وكلاهما ينتمي الى اكبر واشهر الاسر الكريمة في الكويت، الأول عبدالله حمد الصقر، والثاني صديقه وقريبه عبداللطيف محمد الثنيان، وكان لي شرف التعاون معهما في كل احداث الكويت التالية الى مدى طويل كما يتضح فيما تلى من احداث.
وقد كان لدخول هذين الشابين القويين البارزين معترك الجهاد الوطني مع المكانة التي يتمتعان بها من الجميع الى جانب الفئة الصالحة من رجالات الوطن اثرا بارزا في تقوية المعنويات وتجديد شعلة الوطنية، فبدأوا اول ما بدأوا بالاتصال ببعض الشباب المتحمس الذي كان منخدعا فيما مضى ببعض الدعايات واستدرجوهم الى العمل مع الصف الوطني والرجال الاحرار. وكان الشاب محمد البراك ذا مكانة ملحوظة وله صداقات كثيرة عند شباب الكويت الناشئ وكان متحمسا ضد رجال الحاشية الا انه في بعض الاحيان أو غالبها يلجأ الى التهور والسباب بتأثير عواطفه ويجنح الى التطرف البعيد.
وكان مجلس البلدية الصوري القائم على وشك الانحلال لانتهاء الدورة الرابعة له فرأى هؤلاء ان يبدأ نشاطهم ببث الدعاية بين جمهور الكويتيين للمطالبة باصلاح قانون الانتخابات للمجلس البلدي درءا للتلاعب والتجاوز المعروف في حرية الانتخابات. وعندما نضجت دعايتهم نظموا بذلك عريضة صدروها بتمجيد سمو الأمير ثم التوسل اليه بجعل الانتخابات لمجلس البلدية المقبل على غرار الانتخابات للمجالس البلدية في البلاد الاخرى فطالبوا بتعليق جداول باسماء الناخبين قبل اجراء الانتخابات وغير ذلك من الاصول المتبعة، ثم طافوا بهذه العريضة يستمضونها من البارزين من التجار والاعيان وغيرهم لرفعها الى سموه.
وقد ادرك اول من ادرك خطر نجاح هذه الحركة الاصلاحية العادلة على منصبه مدير البلدية القائم الذي وصل الى منصب المدير بوسائل تعسفية اسلفنا ذكرها، كما تهيب الملا صالح وغيره من المتلاعبين ان يقبل الأمير او ان يستسلم للموافقة على تلبية مطالب الجمهور فعمدوا يدا واحدة على الدس عند سمو الحاكم وسعادة رئيس مجلس البلدية ضد هذه الحركة ومروجيها ليدفعهما الى قمع الحركة والضرب على ايدي القائمين بها. وقد تم لهم ذلك طبعا ولكن ادرك الشباب في الكويت بعدها بصحة جوهر الرجال وقيمة كل منهم.
وبدأت السلطات في الكويت بفعل الموسوسين تتهيأ للقضاء على الحركة الوطنية والانتقام من الشباب المتحمس، لا سيما الشاب (محمد البراك) خاصة وانه كان يسرف بالتهجم على السلطة في الشوارع والدواوين بالفاظ جارحة دون وعي ولا اتزان.
وقد حدث خلال هذه الفترة ان اضرب سواق السيارات الاجرة في الكويت لصدور أمر من السلطة بمنع نقل النساء خارج البلدة الا باذن رسمي، وذلك اثر حادث جرى لبعض النسوة اللاتي كن يتنزهن على عوائدهن السنوية خارج المدينة ايام الربيع.
وقد وجد اصحاب سيارات الاجرة في هذا الأمر شلاً لحركة السيارات وقطعا لارزاقهم، وما ان نفذ الاضراب الذي كان مقتصرا على الامتناع عن السياقة ووضع السيارات في (كاراجاتها) باختيار السواق انفسهم، حتى بعث الشيخ عبدالله الجابر في جلب فريق منهم وزجهم بالسجن وأمر بضرب احدهم وهو السائق الشاب (عبدالله العصفور) ضربا موجعا ثم طاف به في الاسواق.
وفي ضحى اليوم نفسه جئ بالشاب (محمد البراك) الذي لا علاقة له بالسيارات لدى الشيخ عبدالله الجابر متهما بالتحريض على الاضراب فضرب ضربا مبرحا للغاية، وعزر ثلاثة ايام متتالية تعزيرا شديدا، واخذوا يطوفون به في الاسواق والحراس من خلفه يقودونه الى السجن ويضربونه باعقاب البنادق، واخيرا غلت رجلاه بالحديد وقذف في حجرة دامسة لا ينفذ اليها النور.
وقد اضطر البراك اثناء تعزيره كل يوم للتخلص من الضرب وهم يطلبون اليه الاعتراف باسماء شركائه ان يذكر اسماء عبدالله الصقر وحمد الحميضي وسلطان الكليب وهو مدرك براءة هؤلاء ولكنه يعتقد ان السلطة لن تقدم على القبض على احدهم لمكانته العائلية. وفعلا اجتمع في مكتب الحاج "محمد ثنيان الغانم" ذوو هؤلاء واقرباؤهم للتداول فيما عساهم ان يصنعوا لو ان السلطة همت بالقبض على احد هؤلاء الثلاثة، وسرى خبر هذا الاجتماع الكبير الى السلطة فامتنعت عن ملاحقة احد بعد ذلك. وقد عمدت السلطات الى هذا الارهاب الشديد لتخويف العناصر الناقمة بتحريض من الدساسين والمستغلين، ثم اصدرت أمرها -تحديا- بدعوة الناخبين لانتخاب أعضاء للمجلس البلدي للدورة الجديدة محرمة على الناخبين انتخاب كل الذين استقالوا من مجلس البلدية اثر حل السلطة لمجلس المعارف الأول وهم: مشعان الخضير الخالد وسليمان خالد العدساني والسيد علي السيد سليمان الرفاعي ومشاري الحسن البدر وخليفة بن شاهين الغانم، وهم كما لا يخفى على احد من اعيان الكويت ورجالاتها البارزين العاملين. ولكن الكويتيين اضطروا الى السكوت مرغمين فترة طويلة يكنون الحقد والكراهية لهذه الاساليب المنفرة، كما استمر الملا صالح ومن معه على التلاعب بالانتخابات والاستخفاف باقدار الرجال، مما كانت عواقبه تنفير الكويتيين جميعا منه وممن معه. وسرت وسوسة بين بعض الناقمين الحاقدين للالتجاء الى القنصل البريطاني في الكويت وكان إذ ذاك (الكابتن ديكوري) للتخلص من هذا الحال الجائر، حتى ولو آل الأمر الى الحكم البريطاني المباشر، لا سيما وان المذكور كان يتصيد كل حركة ضد سمو الأمير لفتور في العلاقات الشخصية بينهما. وقد استغل الكابتن ديكوري نقمة بعض الحاقدين فاخذ يرسل رسله وكتابه الى بعض المهيجين ويمنيهم بتغيير شكل الحكم الحالي الى حكم انكليزي مباشر كما يقول او غير مباشر كما يشاؤن، وطلب الى بعضهم تحرير عريضة موقعة من خمسين رجلا من اعيان الكويتيين وتجارهم تطالب بنوع الحكم الانكليزي الي يرغبون وتسلم اليه لرفعها الى الحكومة الانكليزية. كما انه اخذ من الجهة الثانية يتودد الى سمو الشيخ عبدالله السالم ولي العهد نكاية بسمو الأمير القائم أحمد الجابر الصباح.
وقد حرر بالفعل عدة تقارير الى المقيم البريطاني في الخليج يصف له فيه استياء الناس المتزايد وغير ذلك من الامور ضد الحاكم، كما انه بدأ يستدرج بعضا من أفراد العائلة الحاكمة ويمنيهم بتوسط الحكومة الانكليزية لزيادة رواتبهم وانصافهم كما يقول من أميرهم
(اذا استثنينا سعادة الشيخ عبدالله الجابر الصباح الذي كان يرأس كل من (المحكمة) والمجلس البلدي ومجلس المعارف وبيده باسم الأمير كافة السلطات التنفيذية في الكويت فان بقية أفراد العائلة الحاكمة كانوا اذ ذاك فقراء او شبه فقراء لنقص مواردهم وتواضع رواتبهم ماعدا سمو ولي العهد الشيخ عبدالله السالم الصباح الذي ورث عن ابيه المرحوم الشيخ مبارك الصباح بعض الاملاك العقارية التي تدر عليه ما يسد الحاجة). وهكذا عمد الكابتن ديكوري الى إثارة كل من يمكن اثارته ضد الأمير الذي كان حتى ذلك الحين شبه مغلوب على أمره بسبب استسلامه للملا صالح واعوانه . وقد التقى ذات يوم القنصل ديكوري بالملا صالح وقال له: "ان عملكم في الشاب محمد البراك جد شنيع ووحشية كاملة"، فرد عليه الملا قائلا: "البراك يا سعادة القنصل كان دائما ضد الانكليز وسبهم من اجل فلسطين ونحن ادبناه من اجل ذلك"، ولكن القنصل رد ساخرا على الملا صالح: "كلا ليس من اجل ذلك ضربتموه، اني لأعرف لماذا ضربتموه".عملت هذه العوامل والاحكام الكيفية التعسفية على توحيد صفوف الناقمين مع اختلاف اغراضهم وتباين افكارهم ومبادئهم. وكانت السلطة تنقم اكثر ما تنقم من رجال البلد الاحرار وهم: مشعان الخضير وسليمان العدساني والسيد علي السيد سليمان ثم عبدالله الحمد الصقر وكاتب هذه السطور. ثم دخل في النقمة بعد ذلك المرحومان سلطان ابراهيم الكليب ويوسف مرزوق المرزوق لاسباب شخصية محضة خاصة بهما. فابتدأت المشاورات والمساررات تتصل بين الجماعة المغضوب عليهم في خيام آل الصقر التي كانوا ينصبونها كل ربيع خارج سور الكويت في (الراس) قرب المنطقة المسماة رأس الارض. وذات يوم حاولني سلطان الكليب بحضور صديقيي الحميمين عبدالله الصقر وعبداللطيف الثنيان على تأليف جمعية سرية للعمل من اجل الاصلاح
(كان المرحوم سلطان ابراهيم الكليب ناقما على الملا صالح بسبب تحريض الملا أعضاء مجلس ادارة شركة الكهرباء ضد مدير ادارتها سلطان الكليب مما ادى الى اقالتهم له، بينما المرحوم يوسف المرزوق ناقما على السلطة ايضا لاسباب شخصية اخرى). فأفهمته بحضور ذينك الصديقين صراحة اني لا اثق به نظرا لمواقفه السابقة واقربها الى الذهن موقفه ضد الاحرار في مجلس المعارف المنحل، إذ كان رحمه الله له الباع الطولى في التهييج ضدهم بحجة الدفاع عن المعلمين الكويتيين في مسألة الرواتب لاكتساب عطف الجمهور واثارتهم وكان بارعا جدا في هذا المجال. ولما كرر الحاحه علي رفضت العمل معه وقلت: "ان هذين الصديقين كفيلان باني لن ابيح سرا يشتركان فيه فلك ان تقنعهما وتعمل معهما وانت مطمئن، اما انا فاني لن اعمل الا مع الفريق الذي يكون فيه (مشعان الخضير والسيد علي السيد سليمان ورفاقهما المعهودين)"، فقال: "ان هذين لن يوافقا على العمل معي بدونك". ولم يستطع اقناعي رغم حرارة كلامه وايمانه المغلظة باني ساكون مرتاحا من نواياه للمستقبل ولكن طمنته بقولي: "انه لا حاجة لنا منذ الآن بالأَيمان والمواثيق مادمنا متفقين على وجوب العمل والايام القادمة كفيلة بتوحيد المسعى".وقد تعددت بعد ذلك بيننا الاجتماعات في خيمة الصقر وفي دارهم بالكويت نتبادل فيها وجوه النظر ونقلب الرأي على كافة الوجوه لاختيار اجدى الطرق وانفع الوسائل للعمل في سبيل الصالح العام. وكنا ما عدا عبدالله وعبداللطيف نتحفظ من سلطان الكليب في بعض اسرارنا المهمة، بينما كان هذان الصديقان يعملان من جانبهما على ايجاد الثقة وتعزيزها بين جميع الاطراف، خاصة وانهما كانا جديدين لم تعلق نفساهما بشوائب الماضي واحداثه الموجعة.
ولقد كان القنصل الكابتن ديكوري ناشطا بالاتصال بيوسف المرزوق واخيه من امه المرحوم حمد الصالح الحميضي، وكان سكرتيره الشرقي (عبدالله جاسم البودي) وهو من الكويتيين المعروفين يتردد بإيعاز من ديكوري ينقل اليه ما يشجعهما ويوعز لهما بتكثير الانصار للعمل على تقديم العريضة الحكومة البريطانية كما سلف ذكره. كما ان السكرتير كان يتصل من جهة ثانية بسلطان الكليب لانه ادرك انه اصبح من الناقمين بعد عزله من ادارة شركة الكهرباء ينقل اليه ويأخذ منه الاخبار. وقد مكن سلطان صداقته من عبدالله بودي توقعا للحوادث المقبلة.
وكانت ايعازات القنصل ليوسف المرزوق تقتصر على اعداد عريضة موقعة من جماعة بارزة من الكويتيين لا تقل عن الخمسين شخصا، يطلبون فيها من الحكومة البريطانية تغيير نظام الحكم بالكويت اما بجلب مستشار انكليزي يدير كافة شئون الامارة على منوال ما هو حاصل في البحرين أو الحاق الكويت مباشرة بالتاج البريطاني شبيها بنظام الحكم القائم حيئذ بعدن، اما نحن فقد رأينا وجوب العمل لتدارك كيان البلاد لما فيه صالح الشعب الكويتي ولا بأس لدينا من استغلال هذا التوتر القائم بين السلطة والقنصلية البريطانية لمصلحة الشعب الكويتي. على ان لا يؤدي ذلك الي تغيير جوهري في نظام الحكم المتعارف عليه. وبدأت حملاتنا في الصحف العراقية الوطنية كالسجل البصرية والاستقلال البغدادية وكانتا مشهورتين حينذاك بمواقفهما في نصرة القضايا العربية والوطنية تتركز ضد فوضى الاحكام والتصرفات الكيفية، وطالبنا فيها بإجراء الاصلاحات الضرورية لا سيما اشراك الشعب في ادارة شئون البلاد.
غير ان السلطة شددت الرقابة على المسافرين القادمين من العراق وتفتيش امتعتهم لمنع الصحف المحرضة من دخول الكويت، فحفزنا ذلك على المزيد من الشجاعة والاقدام، فجعلنا نجلب هذه الصحف ونوزعها في الاسواق ونودعها في المكتبات بطرق حيرت السلطة واجزعتها. ثم عقب ذلك طبعنا بعض المناشير الاصلاحية وتوزيعها ونشرها في كافة شوارع الكويت واسواقها مما احدث لغطا كثيرا وشدد من عزائم الناقمين.
بيد ان السفير البريطاني في بغداد وكان له نفوذه البارز في منطقة الخليج لما رأى من تواصل حملات الصحف العراقية واشتدادها خشى العواقب واشتبه في كون بعض رجالات الحكومة في العراق أو متصرف البصرة لهم ضلع فيها، فبعث سكرتيره الى الكويت مرتين للتثبت من هذا الأمر، ولكن القنصل ديكوري طمأنه في ذلك وابلغه ان الحركة ما هي الا حركة كويتية داخلية من اجل الاصلاح والقضاء على الفساد القائم، غير انه مع ذلك تسربت اليهم انباء عن تفكير بعض الكويتيين او كثير منهم بالتجنس بالجنسية العراقية للاطمئنان بعض الشئ على نفوسهم ومصالحهم من بطش السلطة ولو ان شيئا من ذلك لم يحدث الا انها اشاعات تعمد البعض ترويجها لتحذير السلطة وتنبيه الانكليز وتخويفهم من العراق والعراقيين وهو السلاح الوحيد الذي كانوا يملكونه حينذاك. وصادفني ذات يوم لاول مرة في السوق الداخلية عبدالله جاسم البودي سكرتير القنصل ديكوري فحدثني في وجوب العمل للتخلص من نظام الحكم القائم فأفهمته صراحة ان الجماعة المعروفين الذين انتمي اليهم لا يمكنهم التورط بطلب جلب مستشار انكليزي لحاكم الكويت وهم يذكرون جيدا اساليب المستشار الانكليزي الكيفية في البحرين. قال: "اذا طالبوا بحكم انكليزي مباشر تطمئنون فيه من توفر روح القانون والنظام"، قلت: "حتى ولا هذا، ان اغلبية الكويتيين تنفر من قيام حكم انكليزي كائنا ما كان، ولكن جماعتنا يكونون ممتنين جدا لو ان القنصل ساعدهم على تهيئة نوع من انواع الحكم الديمقراطي الذي تتمثل فيه ارادة الشعب على ان تبقى العائلة الحاكمة هي الرمز الاعلى للحكم كما هو الحال في انكلترا"، اما غير ذلك من المحاولات فقد حرصت على اقناعه ان جماعتنا وهم الغالبية الفعالة في الكويت كما يعلم لا يمكن لهم الاشتراك فيها. ولما اجتمعت بعد ذلك بجماعتنا وجدتهم كلهم على الرأي الذي فصلته. وقد عملنا بعد ذلك على اقناع المرحومين يوسف المرزوق واخيه حمد الحميضي وكانت لهما اتصالات بالقنصل بوجهة نظرنا هذه فاقتنعوا بها. وقد رأينا خلال هذه الظروف الدقيقية وجوب تأليف كتلة متضامنة من المهتمين بهذه القضايا تتعامل للعمل على ما فيه صالح الكويت، ورأينا ان يقتصر عددها على اثني عشر عضوا من السادة: مشعان الخضير، السيد علي سليمان، سليمان العدساني، عبدالله الصقر، عبداللطيف محمد الثنيان، يوسف الصالح الحميضي، سلطان الكليب، يوسف المرزوق، عبدالعزيز حمد الصقر، حمد الصالح الحميضي وكاتب هذه السطور، على ان تناط رئاستها الى الحاج للوجيه محمد ثنيان الغانم الذي كان الوطنيون يعقدون عليه آمالا طيبة، نظرا لمكانته الاجتماعية الكبيرة وحماسه للقضايا الوطنية. والطريف في الذكر ان المذكور كان لا يعلم شيئا عن الجمعية ولا من هم أعضاءها بالضبط، ولو انه كان يتخرص تخرصا لان يدرك ان الجماعة جماعته على كل حال. وقد تعمدنا عدم الافشاء اليه بالاسماء لانه رحمه الله لم يكن يستطيع كتمان اي سر عن عائلته..
فاجتمعنا اول ما اجتمعنا في منزل عبداللطيف الثنيان وهناك اقسمنا اليمين على الاخلاص لمبادئ الجمعية التي سميناها (الكتلة الوطنية) وصيانة اسرارها، واقتصرت مبادئ الكتلة على نقطتين هامتين فقط:
اولا - المطالبة بقيام مجلس تشريعي على اساس انتخابات حرة شريفة.
ثانيا - يناط بهذا المجلس كافة الصلاحيات للاشراق على تنظيم شئون الامارة.
ثم تتابعت اجتماعتنا السرية ليلا تارة في منزل العضو عبداللطيف الثنيان واخرى في منزل والدي سليمان العدساني. وكنا خلالها نتداول في احسن وجوه العمل للدعاية الوطنية على ضوء الانباء والاخبار التي تردنا ثم نعمل كل ما نستطيع عمله لتوجيه الرأي العام وتهيئته للعمل معنا، مما ترك الناس يتحسسون بوجود جمعية سرية نشيطة ويتخرصون في اسماء اعضائها وعددهم، غير انهم عجزوا عن معرفة مقر واوقات اجتماعاتنا ومقرراتنا. وبعد مدة طويلة التقيت بعبدالله بودي فذكر لي انه جاء الى السوق الآن ليتحدث الى محمد الثنيان أو عبدالله الصقر غير انه لم يجد احدا منهما، ثم اطلعني على كتاب رسمي وارد من المقيم البريطاني في الخليج الى القنصل في الكويت يطلب منه فيه تبليغ سمو حاكم الكويت باسم حكومة الجلالة البريطانية (مذكرة شفهية) بما معناه (اولا : لقد بلغ الحكومة البريطانية أمر التعزير الوحشي الذي عزر به محمد البراك من قبل السلطات، ولذلك فهي ترجو من سمو الشيخ عدم تكرار مثل هذا العمل . ثانيا : ان الحكومة الانكليزية مقتنعة من استياء الاهالي من فوضى الاحكام في الكويت قبل وبعد حادثة البراك، كما انها من جهة اخرى لا تستبعد ان تتسرب موجات الديمقراطية الى اذهان الكويتيين، لذلك فانها تشير على سموه ان يعمل لاشراك رعاياه ومشاورتهم في إدارة حكم البلاد).
ثم جاء في حاشية المذكرة الى القنصل ملاحظة تقول (بما ان الحالة في الكويت ربما تستدعي وجود مستشار انكليزي الى جانب الأمير فالحكومة البريطانية يسرها ان تعرف رأي سمو الأمير في ذلك الأمر).
وذكر لي السكرتير بودي ان الحكومة البريطانية وضحت للقنصل في مذكرة اخرى ان هذه الملاحظة لا تعني رغبة الحكومة الانكليزية الجدية في ارسال مستشار انكليزي للكويت، وانما هو من قبيل الضغط على الأمير لاقناعه بقبول اشتراك رعاياه في ادارة شئون البلاد، اذ ان الحاكم يدرك ان وجود مستشار انكليزي الى جانبه كفيل بنزع كافة الصلاحيات منه كما هو الحاصل في البحرين.
ذلك هو مضمون المذكرة البريطانية اطلعت على صورتها الاصلية وحفظت معانيها جيدا، وفي الليل قصصت على الجماعة أو الجمعية قصتها كما هي، ورويت لهم ان السكرتير ابلغني ان القنصل البريطاني كان يتمرن امامه كيما يتقن نقل المذكرة الشفهية الى صاحب السمو في صباح الغد. فتداولنا جميعا فيما يجب عمله للاستفادة من تأثير هذه المذكرة الشفهية على نفسية الأمير، واتفقنا جميعا على وجوب الاتصال بالحاج محمد الثنيان والشيخ يوسف بن عيسى بصفتهما ابرز اقطاب الكويت لاقناعهما بالعمل معنا وليكونا على رأس المفاوضين للمطالبة بالاصلاح، وانتدبنا للاتصال بهما السيد عبدالله الصقر الذي اتصل بالشيخ يوسف بن عيسى اولا فلم يجد منه استعدادا للعمل ولو انه تمنى لنا التوفيق، اما الحاج محمد ثنيان الغانم فقد استبشر بالدعوة وقبل رئاسة الشرف للكتلة الوطنية، رغم ان عبدالله الصقر وهو قريبه لم يكشف له عن اسماء اعضائها او عددهم وانما اكتفى ان يقول له ان الكتلة تتألف من الجماعة الذين يشتركون معي في الرأي والمبدأ مما لا يخفى عليك أمرهم، ووضح له الغاية المرجوة من تآزر العاملين لمصلحة البلاد في هذه الظروف الدقيقة التي تجتازها الكويت كما لمح اليه ببعض العوامل المشجعة والمبشرة بالنجاح. وقد اظهر المذكور حماسا طيبا لمناصرتنا وتأييدنا وانما رجى امهاله يوما او يومين ريثما يستطيع اقناع الشيخ يوسف بن عيسى للاشتراك معنا في العمل.
ويجدر بالذكر ان نشير هنا ان السيد نصف اليوسف النصف مدير البلدية عندما احس بتباشير نجاح الوطنيين ورجحان كفتهم اخذ يتقرب الى الحاج محمد الثنيان الغانم حيث كان على يقين من اهمية مركزه في الحركة الوطنية القائمة ويتردد عليه في دكانه في السوق محاولا التأثير عليه ليجعل لنفسه مكانا في المستقبل مع الوطنيين خاصة وان الحاج محمد الثنيان نظرا لتغيبه المستمر عن الكويت في الهند كان يجهل احداث الكويت السابقة ومواقف السيد نصف منها، غير ان عبدالله الصقر فطن الى هذه المحاولة فحذر الحاج محمد الثنيان من الاصغاء اليه او كشف اسرارنا عنده.
ومضت بضعة ايام ونحن نحاول محمد الثنيان ان يترأس الوفد الذي نختاره لمفاوضة سمو الأمير بمطالبنا المعروفة، غير ان المذكور كان يمهلنا لمحاولة اقناع الشيخ يوسف بن عيسى بالاشتراك معه في ذلك، غير ان الشيخ يوسف لم يقبل الاشتراك في مفاوضة الأمير ولكنه قال للحاج محمد الثنيان: "انا لا اذهب معكم ولكني استصوب رأيكم وادعو لكم بالنجاح".
وفي ليلة ثلاثين من ربيع الثاني عام 1357هـ اجتمع كل أعضاء الكتلة الوطنية الموجودين في الكويت ليلتها وكانوا عشرة -تغيب عن الاجتماع عبدالله الصقر وحمد الحميضي لعدم وجودهما في الكويت- وقر رأي الجميع انتداب وفد لمفاوضة سمو الشيخ في صباح الغد ووقع الاختيار على الحاج محمد الثنيان الغانم وسليمان العدساني وعبدالله الصقر على ان يكون الأول رئيسا وحملناهم هذه الرسالة الى سمو الأمير :
حضرة صاحب السمو الأمير الجليل أحمد الجابر الصباح ادام الله بقاه
يا صاحب السمو ان الاساس الذي بايعتك عليه الأمة لدى اول يوم من توليك الحكم هو (جعل الحكم بينك وبينها على اساس الشورى التي فرضها الاسلام ومشى عليها الخلفاء الراشدون في عصورهم الذهبية).
غير ان التساهل الذي حصل من الجانبين ادى الى تناسي هذه القاعدة الاساسية كما ان تطور الاحوال والزمان واجتياز البلاد ظروفا دقيقة بعث المخلصون من رعاياك ان يبادروا اليك بالنصيحة راغبين التفاهم واياك على ما يصلح الامور ويدرأ عنك وعنهم وادي الايام وتقلبات الظروف ويصون لنا كيان بلادنا ويحفظ لنا استقلالنا، غير قاصدين إلا ازالة الشكوى واصلاح الامور من طريق التفاهم مع المخلصين من رعاياك متقدمين اليك بطلب تشكيل مجلس تشريعي مؤلف من احرار البلاد للاشراف على تنظيم امورها. وقد وكلنا املي كتابنا هذا ليفاوضوك على هذا الاساس والله تعالى نسأل ان يوفق الجميع لما فيه صالح البلاد.،،،
30 ربيع الثاني 1357هـ جماعتك المخلصين
وذيلنا هذا الكتاب بكلمة (جماعتك المخلصين) كيلا يعلم الأمير اسماء وعدد الجمعية السرية (الكتلة الوطنية) التي كان الناس يبالغون في كثرتها.
وفي الصباح توجه الوفد الى سمو الشيخ في قصره الكائن على ساحل البحر (قصر السيف) حيث كان يجلس جلسته المعتادة الى زواره والمترددين عليه، وهناك رجوا من سموه الاجتماع به على حدة، حيث ناولوه الرسالة آنفة الذكر وكاشفوه في الغاية التي وفدوا من اجلها. وفي هذا الاجتماع تكلف سموه مجاملتهم وابدى ارتياحه الى تحقيق الفكرة التي جاؤوا من اجلها وقال انه ليسره على الدوام ان يصارحه المخلصون بما فيه صالح الكويت ثم قال انه سيرسل عليهم غدا في مثل هذا الوقت ليتداولوا معهم في الأمر ويعطيهم رأيه فيه.
وقد حضر هذا الاجتماع متعمدا فقط الشيخ فهد السالم الصباح اخو ولي عهد الامارة الثاني من ابيه. وبعد انصراف الوفد من سمو الأمير ارسل الشيخ عبدالله السالم الصباح ولي العهد اخاه فهد الى ديوان الشيخ يوسف بن عيسى طالبا اليه تبليغ الجماعة (أعضاء الوفد) تأييده هو واخيه لمؤازرة الجماعة واستعداده للتعاون معهم في تحقيق مطالبهم، فكانت هذه الروح الطيبة من البوادر الجميلة التي شجعت عزائم الوطنيين وبشرتهم بالنجاح. وقد ارسل الأمير على أعضاء الوفد رسوله في اليوم التالي يدعوهم الى الاجتماع به، وقد وجدوا معه في انتظارهم سعادة الشيخ عبدالله السالم الصباح الذي طلب الأمير حضوره الى جانبه وابدى سموه موافقته على تشكيل المجلس وانما اشترط ان يكون الشيخ عبدالله السالم رئيسا للمجلس المنتظر.
فرد عليه أعضاء الوفد كل بدوره محاولين الايضاح لسموه ان أمر رئاسة المجلس من اختصاص اعضائه الذين ستنتخبهم الأمة بكامل حريتها وانه ليس في مكنتهم البت فيها منذ الآن وقالوا ان مهمتهم تقتصر على مفاوضة الأمير واخذ موافقته على تشكيل المجلس والأمر باجراء الانتخابات، والواقع ان احدا من هؤلاء ما كان يفكر في ترشيح غير سعادة الشيخ عبدالله السالم الصباح لرئاسة المجلس العتيد لا سيما بعد ان ظهر منه التأييد الكامل لهم غير انهم رأوا ان لا تفرض على الكويتيين هذه الرئاسة فرضا وانما تجري على سننن الانتخابات، فرد الأمير وهو يحاول جس نبضهم: "ومتى قلنا لكم انه ليس عندنا لكم مجلس ولا غير مجلس ماذا تفعلون؟"
فنهض عندئذ رئيس الوفد الحاج محمد ثنيان عن كرسيه غاضبا وهو يقول: "نقول في أمان الله". غير ان سمو الأمير وهو المشهور بسعة حلمه ودماثته المعروفة تدارك الأمر قائلا: "العفو انا امزح معكم.. استرح يا ابي عبداللطيف، انكم احرار في انتخاب رئيسكم ولكم ان تباشروا بالانتخاب فورا". وتكلم الشيخ عبدالله السالم فقال: "انا من رأيي التعجيل بالانتخابات حالا كيلا تحصل تحزبات عنصرية وغيرها"، وكان يخشى حفظه الله تكتلات العجم وغير ذلك.
وعندها خرج أعضاء الوفد من لدن سموه شاكرين مستبشرين واجتمعوا فورا بأعضاء الكتلة الوطنية حيث عرضوا عليهم نتيجة المفاوضة، فاستحسن الجميع دعوة الشيخ يوسف بن عيسى والحاج أحمد الحميضي وهما ابرز وجهاء الكويت ليطلعوهما على ما حصل.
فاشار الشيخ يوسف بن عيسى بضرورة الاسراع بالانتخابات قبل ان تبدر بوادر تحزبية غير مستحسنة واتفق الجميع على ان تتألف لجنة للاشراف على الانتخابات من بعض وجهاء البلد (الشيخ يوسف بن عيسى، الحاج أحمد الحميضي، محمد ثنيان الغانم) ولم يكن بالامكان العمل بغير ذلك خاصة وان احدا في الكويت لا يشك مطلقا في نزاهة هؤلاء المختارين، واجتمعت اللجنة ظهر ذلك اليوم في ديوان يوسف مرزوق المرزوق حيث هيئوا قائمة اسماء ثلاثماية وعشرين ناخبا من مختلف العائلات في الكويت ومنهم فريق من الحساوية والعجم الذين استوطنوا الكويت لسنين طويلة، ودعوا جميع هؤلاء للحضور بعد صلاة العشاء ليلا في ديوان آل الصقر حيث يباشروا باجراء الانتخابات فورا بحضور الجميع.
وقد حاول فريق من الناقمين صد الناس عن تلبية الدعوة والمطالبة بمقاطعة الانتخابات بحجة السرعة التي ستجري فيها، ولكن الصحيح ما كانوا يدركونه من انفضاض الناس عنهم وعدم رغبتهم في انتخابهم فودوا لو امهلوا لاحداث بعض الشغب ولهم من رجال السلطة والحاشية ما يمكنهم من ذلك لو اتسع لهم الوقت، غير انهم لم يجدوا من يصغي اليهم فاضطروا للحضور بانفسهم كارهين وطالبوا باضافة عضوين آخرين الى أعضاء اللجنة التي تشرف على الانتخابات وفرز الاصوات فاجيبوا حالا الى ما طلبوا، وبوشر بالانتخابات بتمام الهدوء والنظام.
وفي الصباح تم فرز الاصوات بحضور اللجنة المشرفة فاذا بالسادة الآتية اسمائهم يفوزون بعضوية المجلس التشريعي بالتسلسل:
عبدالله حمد الصقر، محمد ثنيان الغانم، الشيخ يوسف بن عيسى القناعي، السيد علي السيد سليمان العدساني، مشعان الخضير آل خالد، حمد الداود المرزوق، سليمان خالد العدساني، عبداللطيف محمد الثنيان آل غانم، يوسف الصالح الحميضي، مشاري حسن البدر، سلطان ابراهيم الكليب، صالح العثمان الراشد، يوسف مرزوق المرزوق، خالد العبداللطيف الحمد.
وقد كان هذا الفوز الساحق لأعضاء الكتلة الوطنية وانصارهم مثار فرح وسرور عظيمين في كافة ارجاء الكويت، وقد جعل الكويتيون يهنئون بعضهم بعضا على هذا الفوز الباهر والتوفيق المبين ولكن الصدمة كانت كبيرة على الذين كانوا يمنون انفسهم بالنجاح وهم:
ثنيان محمد الغانم، محمد أحمد الغانم، يوسف عبدالوهاب العدساني، نصف يوسف النصف، خالد الزيد الخالد، عبدالمحسن الناصر الخرافي.
فلما سقطوا وكانت غالبيتهم من المتصلين بالملا صالح تعاونوا فيما بعد على عرقلة اعمال المجلس واثارة كل الفتن لهدم المجلس والمجلسيين.
وقد تحدث السيد خالد العبداللطيف الحمد ولم يكن اذ ذاك منتميا الى اي فريق فقال: "لقد اقنعني بعض الناقمين بمقاطعة الانتخابات واجتمعوا في بيتي قبيل الوقت المحدد لها لتدبير الخطة في اثارة الجمهور وتحريضه على عدم الانتخاب داخل مكان الانتخابات وخرجنا جميعا ذاهبين الى ديوانية الصقر مقر الانتخاب وكانت الخطة تقضي بان اقوم انا اولا واتفوه باي شئ ادعو الناس فيه الى التضحية ونكران الذات ثم يتلونى الآخرون بما يثير الناس ويبلبل افكارهم فتحصل الفتنة وتؤجل الانتخابات وهو الهدف الأول من ذلك ثم يتسع لهم الوقت لفعل ما يريدون وقد تكلمت فعلا قبل توزيع بطاقات الانتخابات ثم جلست وتلفت الى جماعتي آملا ان اجد احدا منهم يقتفي اثري كما كنا متفقين غير انهم تهيبوا الموقف اذ لم يجدوا اي وجه للاعتراض سوى المطالبة باضافة عضوين الى لجنة الاشراف على الانتخابات احدهم يوسف العدساني وباشروا بعد ذلك هم انفسهم بالانتخابات مؤملين بالفوز فانخرطت معهم وكتب لي الفوز من دونهم.
ولقد حفز هذا الفشل المنتظر بالانتخاب لهؤلاء الناس الى تناسي المصلحة العامة في هذه الظروف الدقيقة التي تجتازها الأمة من اجل الفوز باغلى امانيها، فنصبوا انفسهم لمناهضة اخوانهم الفائزين ومناصبتهم بالعداء وزرع كل المشاكل في طريقهم رغم بياض صفحة بعضهم وحسن تفكيرهم فارتأوا اول ما ارتأوا الطواف بالاسواق لحمل الناس على توقيع عريضة اعدوها لرفعها الى صاحب السمو الأمير يطالبون فيها باعادة اجراء الانتخابات بعد ان اشتركوا هم فيه وفي الاشراف عليه، ولكن تصدي لهم الشباب الوطني المتحمس فشل حركتهم ونفر الناس منهم اذ لم يوقع على عريضتهم الا بضعة اناس لا قيمة لهم.
وقد اسف الناس ان يتمادى امثال محمد الغانم ويوسف العدساني وامثالهم من الغيارى والمفكرين في التطويح بمكانتهم للوقوف في صف المعارضة جنبا الى جنب مع النفعيين والحاقدين لا لشئ سوى التشفي من اخوانهم الذين فازوا ولم يفوزوا هم بكراسي المجلس، وكان ذلك منتظرا بسبب اتصالهم بالملا صالح وتعاونهم معه بسبب بعض المصالح التجارية وغيرها.
تلك هي اذا طبيعة المعارضة الكويتية نشأت منذ البداية على اساس المنافسات الشخصية عند قوم وعند آخرين بسبب الخوف على مصالحهم ومنافعهم المادية، فتعاهدوا جميعا في الوقوف جنبا الى جنب رغم اختلاف آرائهم وتباين اغراضهم على معاكسة مشاريع المجلس منذ قيامه بغير برنامج ولا لخدمة وطنية، بقصد الهدم والتخريب كما قال سبحانه وتعالى {يخربون بيوتهم بأيديهم}.
وقد تآلب آل أحمد الغانم (محمد الغانم واخوانه) على الضغط على قريبهم ونسيبهم محمد ثنيان الغانم لحمله على الاستقالة من المجلس قبل اول اجتماع له ليفتوا من عزيمة المجلسيين ويثلموا من قوتهم، فانصاع غير مرتاح الى الاستقالة فحل محله بالتسلسل الرجل القوي محمد بن شاهين الغانم بن عم المستقيل، وبذلك عوض المجلسيون ما فقدوه من خسارة في استقالة الحاج محمد الثنيان.
كان الحكم في الكويت الى ما قبيل عهد المجلس التشريعي محصورا في جميع مظاهره واشكاله في يدي الحاكم الفرد الذي يتعلق على كفائته وحسن اختياره لموظفي الحكومة ورجال القصر من الحاشية والتابعين مصير البلد والناس جميعا. أما الواردات فانها كانت تجبى دون ان يخصص منها ولو نصيب يسير للخدمات الضرورية، لا في الصحة ولا في المعارف ولا في العمران أو في أي منفعة عامة اخرى. وكان القضاة وغيرهم يعينون بارادة الحاكم التي يكيفها دائما اقرب المشيرين اليه من رجال الحاشية والمتنفذين، فكان من غير المتوقع ان يشيروا على سموه بانتقاء الرجال الاكفاء المشهود لهم بالنزاهة وطهارة الضمير بل كانوا ينتقون الضعفاء والخائرين للتعاون معهم في كسب الاموال الحرام وتهيئة الوسائل العجيبة لابتزاز الخزينة والتحكم في رقاب الناس وقضاياهم.
ولقد كان الملا صالح رئيس كتاب الأمير بل وزيره الأول صاحب النفوذ الأول والكلمة المسموعة في بلاط الأمير وبالتالي في كافة شئون الامارة ودوائر الحكم فيها. وكان من المتعذر في الكويت ان تنجح اية قضية او يصدر حتى حكم عادل في دوائر القضاء او في سواها ما لم يكن لها سند الملا ومصلحته نصيب. فالقضايا الشرعية والاحكام الجنائية والاتفاقيات والامتيازات والاحتكارات النافعة والضارة تكيف اولا وتهيأ في دار الملا او دائرة اعماله (مكتبه في السوق الداخلي) حتى اذا تم الاتفاق عليها مقدما ودفع الثمن المطلوب سارت في طريق النجاح فائزة بتوقيع الأمير غير حافلة بالاعتراضات والانتقادات العامة.
أما الشئون الخارجية والمكاتبات السياسية فانها تسوى ايضا على يد هذا الرجل وبقلمه ايضا رغم قصوره العلمي وجهله التام بالسياسة، حتى لقد اضطر رئيس كتاب القنصلية البريطانية في الكويت الى الحضور الى دائرة الملا كيما يملي فقط صورة الجواب التي تتطلبه دائرة القنصلية من سمو الحاكم لعجز الملا وحيرته في كتابة في كتابة الجواب المطلوب.
ذلكم هو حقيقة الحال عن نوع الحكم القائم قبيل المجلس التشريعي صورة واضحة من تحكم الحاشية وعبثها واستهتارها بالناس والحقوق، فكيف يتسنى لرجال المجلس معالجة الاحوال وتنظيم شئون الامارة دون ان يستندوا الى قاعدة واضحة ونظام مرسوم.
بدأوا أول ما بدأوا بانتخاب الشيخ عبدالله السالم الصباح ولي العهد للمجلس التشريعي توقع كافة القرارات والرسائل التي تصدر من المجلس باسمه لتكون لها حرمتها المبتغاة بصفته ابرز أعضاء العائلة الحاكمة بعد سمو الأمير، ثم تواصوا على وضع قانون صلاحية مجلس الأمة ورُشح الشيخ يوسف بن عيسى نفسه لوضع القانون المذكور، بينما اوعز الي جماعة الكتلة الوطنية من أعضاء المجلس ان اهيئ مسودة الدستور المطلوب.
وفي جلسة تالية تلا الشيخ يوسف على أعضاء المجلس صورة ما أعده فاذا به يشمل على بعض الآيات القرآنية والاحاديث النبوية والنصائح الاخرى مما لا يتصل والموضوع المطلوب، فشكروا الشيخ يوسف على اجتهاده ولكنهم اعتذروا منه عارضين مسودة القانون الذي اعددته فوافق عليه الجميع، وارتأوا ان يحمله سعادة رئيس المجلس ليطلب من سمو الحاكم التفضل بتوقيعه. ولكن رئيس المجلس رجع اليهم ليلا وهو يقول: "ان الأمير يوافق مبدئيا على القانون ولكنه متردد في توقيعه، لانه يقول لا حاجة الآن الى ذلك والافضل ان تسير البلاد تدريجيا في هذا الشأن".
فكان ذلك صدمة كبيرة للمجلسيين وانصارهم اوشكت ان تنقلب الى ازمة حادة بينهم وبين القصر لا يعلم الا الله ماذا ستكون نتائجها حيث كان المجلسيون في عنفوان حماسهم وتراصصهم للمغامرة في الفوز بالحقوق الدستورية كاملة غير منقوصة. وكان على رأس كل ذلك رئيس المجلس ولي العهد والعديل الأول لحاكم الكويت تشجعهم مكانته المرموقة من العائلة الحاكمة ومقامه لدى الرأي العام. واذكر ان ذلك اليوم كان من الايام الفاصلة في تاريخ الكويت. فقد كان الناس في شبه ذهول ينتظرون ماذا يكون موقف نوابهم وشجاعتهم بعد تلك الصدمة التي كانوا يتوجسون من ورائها الغدر والخديعة من الحاشية التى تآلبت على سمو الأمير تنصحه بعدم التساهل واستخفاف أمر المجلسيين. اما الشباب الوطني فقد توافد ليلا حول بناية المجلس ليتلقى من نوابه التعليمات الاخيرة التي تطوع أفراده للقيام بها من امور الدعاية وتنوير الرأي العام. وجاءتني سيارة الصقر في الساعة الرابعة بعد الغروب ليلا وكانت من ليالي الصيف القصيرة يدعونني النواب الى الحضور عندهم لمهمة لا اعرف ما هي، ولما صعدت الى النواب في قاعة المجلس الذي كان مقره (الكشك البحري من بيت آل صقر) على ساحل البحر، وجدتهم قد انهوا مداولاتهم وتناثروا في غرف المجلس يتحدثون ويطغي على حديثهم روح الحماس والتشدد. وقابلوني جميعا وهم يقولون لي: "اكتب الى الشيخ (الأمير) كتابا قويا فحواه كذا وكذا "، وأردت ان اتملى واتدبر في الأمر لألمس روحية النواب جميعا كيما يكون كتابي معبرا عن رغبة الجميع فلا اعود ثانية للحذف والتعديل ولكني حينما وجدت حتى الشيخ يوسف بن عيسى يؤكد علي بشدة اللهجة، لم اعد بعد ذلك في حاجة الى تأكيد، فرجوتهم ان يتركوني وحدي لأتفرغ الى نفسي في كتابة ما يريدون.
وبعد ساعة وقع الجميع على الكتاب دون ان يتردد منهم او يتريث، ثم حمله سعادة رئيس المجلس ليعرضه بعد ذلك صباح الغد على سمو الأمير واليك نصه:
حضرة صاحب السمو الشيخ أحمد الجابر الصباح دام بقاه
يا صاحب السمو، تقدم اليكم مجلس الأمة التشريعي هذا اليوم بقانون وافق عليه أعضاء المجلس بالاجماع موضحا الصلاحيات الاساسية لمجلس الأمة وقد أحاطنا سمو الشيخ عبدالله السالم بما دار بينكم وبينه اثناء عرض القانون عليكم لتوقيعه الا اننا لمسنا صراحة ان جوابكم لم يكن مقنعا فسموكم تقولون انكم موافقون على القانون ولكنكم تريدون ان يكون العمل به تدريجيا ولذلك لا ترون حاجة الى امضائه في الوقت الحاضر وجوابا على بيانات سموكم نفيدكم ان أعضاء المجلس جميعا لم يرتاحوا ولم يقتنعوا بهذه البيانات الشفهية ففي الظروف التي توليتم بها الحكم قطعتم ايضا على انفسكم ان تجعلوا الحكم بينكم وبين الأمة شورى ومضت الايام ولم تر الأمة تحقيقا لما وعدتم.
ان نواب الأمة يا صاحب السمو حينما وطدوا عزائمهم على خدمة الشعب والبلاد كانوا جادين غير هازلين ولا مترددين وقد اقسموا ان لا يحول بينهم وبين خدمة الأمة والاصلاح اية عقبة كانت ولعل هذه اللحظة في تاريخ البلاد تكون من اللحظات الفاصلة فاما الى الخير وانت على رأس الأمة يحيط بك الاجلال ويحفك التقدير والحب من كل حدب وصوب، واما الى ضده وهؤلاء نحن قد تهيأنا لكل أمر متوقع كتلة واحدة في صف البلاد لا نتردد ولا نتقهقر . ففي هذه اللحظة التي نرفع اليك فيها كتابنا هذا نقف جميعا في انتظار جوابكم التحريري الحاسم بالموافقة والله تعالى نسأل ان يوفق الجميع الى ما فيه السداد.
الكويت تحريرا في 12 جمادى الأولى 1357هـ تواقيع جميع الأعضاء
أما الشباب الذي كان محتشدا خارج المجلس ينتظر التعليمات ليبثها عن طريق المناشير والكتابة بالحيطان -وهي اعمدة الجرائد المعوضة في الكويت- فقد أُوعز اليه ان يكتب امثال هذه العبارات في طريق سمو الأمير:
(حب الشعب يرفعك الشعب) (اخلص للامة تخلص اليك) (عاش النواب المطالبون بحقوق الوطن) وغير ذلك من العبارات المهذبة.
بيد ان هنالك مع الاسف الشديد من شوه الموضوع، فقد كتبت ايضا كتابات قاسية جارحة ربما كان مصدر بعضها بعض الشباب المتهور، الا انه من الثابت ايضا ان اكثر هذه العبارات الجارحة موعز به من قبل رجال الحاشية والمفسدين وذلك لاستفزاز شعور الأمير وغضبه، فكنا ننصح شبابنا بمحوها حلا.
وفي الصباح عندما اجتمع سعادة الرئيس بسمو الأمير الذي كان قد تسرب اليه فحوى الكتاب المنوى تقديمه بادر سموه الرئيس بقوله: "انه مقتنع بالقانون وليس لديه ثمة اعتراض عليه وطلب فقط استبدال كلمة (نحن أمير الكويت) المصدر بها القانون بكلمة (نحن حاكم الكويت) ثم يوقعه مصححا".
وبعد صلاة العصر حمل الرئيس القانون بصيغته النهائية الى سموه حيث تم التوقيع عليه ورجع سعادته به الى أعضاء المجلس الذين كانوا قد هيأوا النشرات العديدة من القانون لتوزيعها على كافة الناس، فتقاطر الكويتيون يتخاطفونها منهم ويتلوها بعضهم على بعض في الطرق والاسواق في شبه مظاهرات متعددة وقفت اثناءها كافة الاعمال وانقطعت حركة المرور، وأمست الكويت في ذلك اليوم تعج بالافراح وكأنها في احد الاعياد الكبيرة.
واليك نص القانون المذكور :
بسم الله الرحمن الرحيم
نحن حاكم الكويت
بناء على ما قرره مجلس الأمة التشريعي صادقنا على هذا القانون في صلاحية المجلس التشريعي وأمرنا بوضعه موضع التنفيذ:
المادة الأولى - الأمة مصدر السلطات ممثلة في هيئة نوابها المنتخبين.
المادة الثانيـة - على المجلس التشريعي ان يشرع القوانين الآتية:
1- قانون الميزانيــــة - "أي تنظيم جميع واردات البلاد ومصروفاتها وتوجيهها بصورة عادلة الا ما كان من املاك (الصباح) الخاصة فليس للمجلس حق التدخل فيه"
2- قانون القضــــــاء - "والمراد به الاحكام الشرعية والعرفية بحيث يهيئ لها نظاما يكفل تحقيق العدالة
بين الناس"3- قانون الامن العـام - "والمراد به صيانة الامن داخل البلاد وخارجها الى اقصى الحدود"
4- قانون المعـــــارف - "والمراد به سن قانون للمعارف تنهج فيه نهج البلاد الراقية"
5- قانون الصحـــــــة - "والمراد به سن قانون صحي يقي البلاد واهاليها اخطار الأمراض والاوبئة ايا كان نوعها"
6- قانون العمــــــران - "وهو يشمل تعبيد الطرق خارج البلاد داخلا وخارجا"
7- قانون الطـــــوارئ - "والمراد به سن قانون في البلاد لحدوث أمر مفاجئ يخول السلطة حق تنفيذ الاحكام المقتضية لصيانة الامن في البلاد"
(جميع هذه التفسيرات الواردة بين قوسين للقوانين وضعت باجتهاد واصرار الشيخ يوسف بن عيسى حيث لم تكن موجودة في الاصل)8- كل قانون آخر تقتضي مصلحة البلاد تشريعه.
المادة الثالثــة - مجلس الأمة التشريعي مرجع لجميع المعاهدات والامتيازات الداخلية والخارجية وكل أمر يستجد من هذا القبيل لا يعتبر شرعيا الا بموافقة المجلس واشرافه عليه.
المادة الرابعـة
– بما ان البلاد ليس فيها محكمة استئناف فان مهام المحكمة المذكورة تناط بمجلس الأمة التشريعي حتى تشكل هيئة مستقلة لهذا الغرض.المادة الخامسة - رئيس مجلس الأمة التشريعي هو الذي يمثل السلطة التنفيذية في البلاد.
تحرر يوم الجمعة الحادي عشر من جمادي الأولى عام الف وثلاثمائة وسبعة وخمسين هجرية الموافق الثاني
من جولاي عام الف وتسمعائة وثمانية وثلاثين ميلادي
حاكم الكويت
أحمد الجابر الصباح
بعد هذا النصر الحاسم لم يتجاسر احد على الوقوف في طريق المجلسيين فقد انكمشت الوجوه الصفيقة وخرست الالسنة الناعقة بالفساد، وخشى على كرامته من كانت له كرامة، ولو ان بعض المعارضين مال على بعض يتعاهدون سرا ويبيتون دسائسهم ليوم تتوافر فيه عناصر الكيد وتسنح اسباب التشفي والانتقام. اما الوطنيون فانهم ساروا شوطا قصيا في طريق الاصلاح الشامل مواصلين الليل بالنهار حتى اتموا في خمسة شهور قصيرة ما لا يمكن اتمامه في سنين. وقد وزعوا انفسهم على انجاز المهام المطلوبة والاشراف على سير الاعمال والمصالح العامة على طريقة لجان اختصاصية. فلجنة للشئون السياسية واخرى للمالية وثالثة للعمران ورابعة للمعارف وغير ذلك من اللجان التي تتطلبها حاجة الكويت وتشكيلاتها الجديدة. وجعل للمجلس مجتمعا الكلمة الاخيرة والقول الفصل في المصادقة على قرارات اللجان. ومن الاصلاحات الكثيرة التي انجزها المجلسيون في الدورة الأولى:
فصل الموظفين المرتشين وعديمي الكفاءة من تراث العهد الخامل واحلال الشباب النزيه بدلا منهم، كما التفتوا الى القضاء والمحاكم فاصلحوا من انظمتها وقننوا مجلة الاحكام الشرعية لتكون وحدها مصدرا لكافة الاحكام الشرعية ليس للقاضي ان يتأول فيها ويجتهد الآراء والفتاوى المتناقضة طبقا لميوله والمؤثرات الخاصة تلك التي ضج الكويتيون منها في عهد بعض القضاة المنحرفين، وعينوا الوجيه (مرزوق البدر) مستشارا عرفيا ومعاونا لحاكم المحكمة العامة. ثم عطفوا على المعارف فوسعوا نطاقها واضافوا الى ايرادها نصف واردات مصلحة النقل والتنزيل التي امموها والتي يعلم الكويتيون كيف طبخ امتيازها في مكتب الملا صالح قبل عهد المجلس لنفر قليل من الذين عرفوا استغلال الظروف بعد ان كانت اسهمها جميعا قد اكتتب بها كافة الراغبون من الكويتيين فاحتكروا لانفسهم جميع اسهمها واعادوا للكويتيين المكتتبين اوراق المساهمة وكانت تدر عليهم وحدهم من الارباح ما ليس يحصى.
الغاء الاحتكارات الضارة
لم تعرف الكويت حتى اول عهد المرحوم الشيخ أحمد الجابر الصباح اي نوع من انواع الاحتكارات او الامتيازات التي تحد من حركات التجارة او تقيد مزاولة اي عمل حر. ولكن بعض المرتزقة من اصحاب النفوذ زينوا لأولياء الامور في منتصف عهد المرحوم الشيخ أحمد فتح هذا الباب الموصد غير المعروف على غير اساس صالح، سعيا وراء الحصول على اتاوات سرية توازي عادة حصة الحكومة الرسمية او تزيد، وذلك لقاء ما يبذلونه من معاونة للمحتكرين واصحاب الامتياز وتمكينهم من الفوز بالاحتكارات المتنوعة باثمان وشروط زهيدة تتعارض اصلا ومصلحة الكويتيين.
وكانت اول هذه المحاولات المضرة منح احتكار (صنع مشروب النامليت) لصاحب معمل اجنبي لقاء رسم زهيد يدفعه للحكومة سنويا، الأمر الذي جعل لصاحب الامتياز وحده حق التحكم في الاسعار والاستخفاف بجودة النوع ونظافته، ولكن المجلس التشريعي عندما درس ظروف الحصول على هذا الامتياز قرر بتاريخ 5 رجب 1357 الغاء الامتياز وتنازل عن رسم الحكومة فترك بذلك الباب مفتوحا للمتنافسين والمتزاحمين ترقية لنوع اصناف المشروبات وتطمينا لصالح المستهلكين.
اما الاحتكار الثاني وهو احتكار (المصارين) ولعله من اعجب واغرب انواع الاحتكارات اذ تنص اتفاقيته المعقودة مع السلطة على الزام كافة الجزارين وبائعي المصران بيع كافة ما لديهم منها لمشتر واحد هو صاحب الاحتكار، مهما شح معهم او تحكم في زهد الثمن.. ويكفي معرفة مقدار الغبن النازل بهؤلاء من اضطرارهم بيع كل مصير واحد بآنه واحده او نصف آنه (الآنه الهندية تساوي تقريبا او تقل عن الخمسة فلوس) بينما يبيع المحتكر نفسه على مقاول آخر معه في ارض الكويت بما يترواح بين الاثني عشر والثمانية عشر ضعفا.. فكان لزاما على رجال العهد النيابي انصاف هؤلاء الجزارين الوطنيين الفقراء من تحكم هذا الرجل الغريب ايضا والغاء هذه الاتفاقية المجحفة التي اقر صاحبها انه فاز بها لقاء المخصصات المعروفة، وترك الناس احرارا يبيعون اشياءهم كيفما شاؤوا.
وهناك بعض الامتيازات الاخرى التي فاز بها بعض الكويتيين كاحتكار صنع الثلج لقاء مبلغ سنوي للحكومة وتصدير الرمل خارج الكويت، وقد عرض احد اصحابها محمد الغانم وهو من رجال المعارضة استعداده لالغائهما متى وجد المجلس ان فيهما اي حيف على احد، غير ان المجلس لم ير فيهما شيئا من ذلك فابقاهما.
اما قضية الاحتكار الذي منح لاصحاب (شركة النقل والتنزيل) الاربعة في احوال مريبة فلها قصة يطول شرحها ولكنا نلخصها فيما يأتي
(عن رسالة نصف عام للمؤلف):كانت مهمة النقل والتنزيل للبضائع الواردة بالبواخر عملا مشاعا يحترفه كثير من اصحاب السفن الشراعية المسترزقين، فلما تم التوقيع على امتياز شركة زيت الكويت المحدودة اشير على سمو الأمير ان يمنح مهمة النقل والتنزيل الى شركة قوية منظمة ذات رأس مال كبير يكون في امكانها بالاضافة الى نقل وتنزيل البضائع التجارية التعهد الى شركة الزيت بنقل وتنزيل كافة معدات الشركة ايا كان حجمها وثقلها بسفن ووسائط مأمونة وافية بالمرام، فعرض سموه حقوق هذا الاحتكار (النقل والتنزيل) على الكويتيين جميعا ليؤلفوا شركة واحدة يساهمون فيها كل حسب رغبته وعرضت اسهم هذه الشركة للبيع على الكويتيين وحدهم فاكتتبوا بجميع اسهمها البالغ قيمتها مائة الف ربية (سبعة آلاف دينار ونصف)، بل زاد اقبالهم على الاكتتاب بما يزيد على الضعفين، وانتدبوا عنهم بعض كبار الاغنياء المساهيم لمفاوضة سموه على وضع شروط الاحتكار وتعيين رسم الحكومة. بيد ان بعض الانانيين من الذين اوكل اليهم التفاوض مع السلطة على شروط الامتياز لما تبينوا سهولة تكاليف هذه الشركة وعظم الارباح المتوخاة منها اتفقوا مع طباخي الصفقات الاحتكارية المعلومين وانهوا سرا اتفاقهم مع الملا صالح النافذ الأول المعروف ليسهل لهم شروط الامتياز ويضمن لهم وحدهم امكانية الفوز فيه، ثم انذروا بقية المساهمين بفسخ ارتباطهم وارجعوا عليهم اوراق الاكتتاب بالاسهم قائلين انهم يتركون من شاء كيف شاء ليتقدم ويأخذ الامتياز.
فكانت لعبة سافرة تبرأ منها من المساهمة فيها كل من الشيخ يوسف بن عيسى والحاج محمد ثنيان الغانم وغيرهم وكانوا من اكبر المنتدبين ترفعا منهم عن القبول بمخادعة الناس، ولقد احتمل الكويتيون هذه الضربة البليغة على مضض وبقيت مدى الايام تحز في نفوسهم، ولكن كل من عرف حالة الكويت والكويتيين ذلك الوقت ادرك انهم سكتوا مضطرين ورضخوا للأمر الواقع مغلوبين على أمرهم.
ولقد فاز الابطال الاربعة وهم خالد الزيد الخالد، عبدالرحمن محمد البحر، عبدالمحسن الناصر الخرافي،
(الأسم الرابع غير موجود في النسخة الأصلية)، بالتواطؤ مع الملا صالح الملا على اهون وايسر سبيل. فلما جاء دور العهد النيابي وتنفس الكويتيون الصعداء كان لزاما على المتصدرين ارجاع الحقوق لاصحابها. ففي يوم 1 شوال عام 1357هـ رفعت عريضة موقعة من اعيان الكويتيين وكافة طبقاتهم مطالبة بحل (شركة التنزيل والنقل) القائمة، وبعد يومين تناقش أعضاء المجلس التشريعي مناقشة طويلة ارتأى على اثرها بعض المعتدلين اتخاذ حل وسط للتفاهم مع اصحاب الشركة الاربعة بصورة ودية لتخصيص قسم محدود من اسهم الشركة يبقى لهم والباقي يرصد للمشاريع الخيرية. ولقد اظهر ثلاثة منهم استعدادهم لقبول العرض، اما الرابع فقد ابى التنازل عن شئ واستطاع اقناع زملائه بفادة الاصرار على رفض اي تسوية كانت. ولما ابدى سمو الأمير رغبته في التوسط وكان الامل معقودا على قبول وجهة نظر سموه في التوسط حدث ان الحاج عبدالرحمن البحر وكان اكثر اصحاب الشركة ميلا للاتفاق بعث بعد ذلك بكتاب الى احد أعضاء المجلس يبلغه فيه عدوله عن فكرة الاتفاق ورفضه كل موافقة لتعديل عدد الاسهم على اي اساس كان، فاسقط في ايدي المعتدلين ولم يبق بعد هذا الكتاب مجال لهم باقناع زملائهم الآخرين بالانتظار، فاصدروا بالاجماع هذه المرة قرارا يقضي بالغاء امتياز شركة النقل وتأميمها لمصلحة دائرتي الصحة والمعارف محتجين بالظروف والاساليب المريبة التي أُخذ فيها الامتياز، فأكبر عموم الكويتيين هذا العمل النافع والعزم الاصيل من اهله.اما اصحاب الشركة المنحلة فقد اعيد اليهم جميع اثمان ممتلكاتها ومنشئاتها التي كانت جميعا من صافي الارباح، وصدر قرار المجلس بحرق اوراق الاتفاقية لقطع دابر كل اخذ ورد في هذا الأمر.
في المعارف
سارت المعارف في عهدها الحديث بعد تولي الاساتذة الفلسطينيين امور التدريس سيرا حثيثا اثنى عليه الجميع، ولكن كاد شيطان الجهل حرماننا من كفائة ونشاط بعض هؤلاء المدرسين الغيورين، اذ كانت النية مبيتة على ابعاد هؤلاء، بيد ان نزوغ العهد النيابي درأ عن المعارف تلك الدسيسة الذميمة.
وطرح الأعضاء التشريعيون أمر المعارف على بساط البحث في قاعة المجلس التشريعي فاجمعوا على وجوب توسيع نطاقها والسير بها الى اوج التقدم والنهوض، فقرروا زيادة جلب المدرسين الفلسطينيين الذين برهنوا على دماثة اخلاقهم وحسن سلوكهم ومتانة مبادئهم، فضلا عما يبذلونه من جهد كبير للاصلاح الشامل الصحيح، فازداد بذلك عدد المعلمين الفلسطينيين من اربعة الى ثمانية، وتقرر جلب مدرستين فاضلتين من فلسطين لفتح الصفوف الابتدائية لتعليم الفتيات الكويتيات، فكان ذلك من اجمل مآثر العهد النيابي الميمون، اذ تسنى للفتاة الكويتية لاول مرة ان تشق طريقها الأول الى معرفة الحياة الصحيحة مزودة بفضائل المعرفة والعلم.
كما قرر المجلس التشريعي وجوب ارسال بعثات الى خارج الكويت، فخاطب في ذلك وزارة المعارف العراقية في بغداد ثم مشيخة الازهر بالقاهرة، وتم بعد ذلك قبول خمسة تلاميذ يحملون شهادة الابتدائية الكويتية وتم لهم الانخراط فعلا في سلك طلاب مدرسة المعلمين الريفيين في بغداد، واما مشيخة الازهر فقد قبلت اربعة من الطلاب الكويتيين يدرسون في جامعتها وعلى نفقتها الخاصة.
ولقد ارصد المجلس التشريعي نصف واردات مصلحة النقل والتنزيل المؤممة لحساب دائرة المعارف اذ كان العزم معقودا على زيادة التوسع في نطاقها وترسيخ عمادها حيث كان رجال العهد المسؤولين يرون في هذه المؤسسة مثوى الاماني ورمز الآمال الكبار.
مزيد من الاصلاحات
هذا ولقد دفع رجال المجلس عجلة الاصلاح في الكويت الى جميع المجالات، في دوائر القضاء والامن العام والمالية والجمارك والعمران. ولقد شرحنا كل ذلك عام 1947م بعنوان (نصف عام للحكم النيابي في الكويت) فمن اراد زيادة الاطلاع فليرجع الى رسالتنا تلك.
الماليـــــــة
لم تكن هنالك قبل قيام المجلس التشريعي مالية مستقلة للدولة تنفق على وجوه الاصلاح والخدمات العامة، بيد انه عندما تأسس المجلس التشريعي فاز اعضاؤه من سمو الحاكم بتلك الصلاحية التي تنص المادة الثانية فيها على تخويل المجلس التشريعي حق الاشراف على تنظيم الميزانية العامة وصرفها وفقا لاغراض البلد ومنافعه.
منذ ذلك الحين حدث اكبر انقلاب في تاريخ الكويت، اذ اصبحت للامة مالية مستقلة عن مالية الحاكم تستعمل لمعالجة شئون الاصلاح وتجديد دواوين الحكومة وفقا لما يتطلبه المنهاج المطلوب من التقدم والرقي.
وكان بديهيا ان الاصلاح المطلوب احداثه في شئون الامارة يتطلب ميزانية واسعة واموالا كثيرة قد لا تجود بها موارد الخزينة المحدودة، لا سيما اذا كان معروفا ان الاوضاع والبنايات الحكومية في الكويت بقيت على ما هي عليه دون توسع ولا تجديد منذ عهدها السحيق الأول، فاصبح من الضروروي تجديدها على نسق مقبل يتناسب وذهنية العصر مع ما طرأ على البلاد من تقدم وتوسع في جميع المجالات.
اضف الى ذلك ان الكويت لا تتحمل وضع ضرائب جدبدة او زيادة الضريبة الجمركية القديمة بالنظر الى وضعها الجغرافي الخاص الذي مكنها من الصمود لسهولة تعريفتها الجمركية وخلوها من كافة الضرائب الاخرى المعروفة في البلدان المجاورة، فاذا ما مس هذا الركن الاصيل من يسرها وسهولة التعامل فيها دون قيد ولا شرط بارت تجارتها وهجرها اهلوها.
فعالج المجلسيون الوضع اولا بانشاء (دائرة المالية) للاشراف الدقيق على تنظيم جباية الضرائب والواردات وطرق صرفها كيلا يتمكن المتلاعبون والمرتشون من بعثرتها واللعب فيها، وانيطت رئاسة (دائرة المالية) باحد اعيان الكويت المشهود لهم بالنزاهة وحسن التدبير وهو السيد مشعان الخضير آل خالد والذين عرفوا هذا الرجل من اصدقائه او خصومه يدركون جيدا ان المالية في الكويت فازت بخير الرجال واحرصهم على تنمية مال الخزينة العامة والاقتصاد والتدبير في صرفه ما امكن الحال.
وذلك وقد كانت ميزانية الامارة في عهد المجلس التشريعي هكذا على وجه التقريب:
الواردات العامة لسنة كاملة:
الواردات |
بالدينار |
واردات الجمارك |
11250 |
الرسوم المستحصلة من تصدير الرمل والصلبوخ الى عبادان |
7500 |
بدل احتكار تصدير الرمل الى العراق |
300 |
بدل امتياز شركات "الضياء" و "الثلج" و "السيارات الكويتية العراقية" |
500/337 |
زكاة البر والوارد من الجوازات والمحاكم وبقية رسوم صغيرة اخرى |
500/337 |
المجموع (تقريبا) |
19725 |
يقابل ذلك مصروفات ثابتة لسنة كاملة (بالدينار)
رواتب أفراد العائلة الحاكمة وتابعيهم (تقريبا) |
15000 |
رواتب جميع موظفي الادارة |
3000 |
المجموع |
18000 |
فيكون المتبقي من الواردات لاعمال الاصلاح والعمران وتشييد وفتح الدوائر الجديدة المقتضية والمصاريف الحكومية الطارئة حوالي الف وسبعمائة دينار لمدة سنة كاملة فقط.
وهناك خمسة وتسعين الف ربية (اي سبعة آلاف ومائة وخمسة وعشرين دينارا) حصة الحكومة السنوية من امتياز شركة نفط الكويت لم يتم استلامها.
تلك هي المشكلة التي كان على أعضاء المجلس التشريعي معالجتها بحكمة ونزاهة دون اللجوء الى فرض الضرائب او الحد من اعمال الاصلاح الضروري التي حرمت منه البلاد فترة طويلة والتي يتلهف الكويتيون جميعا على سرعة انجازها دون اللجوء الى فرض الضرائب.
بدأوا اول ما بدأوا بحرمان انفسهم من تعيين اي راتب لقاء قيامهم باعمال النيابة رأفة منهم بحال الميزانية الضعيفة باستثناء ثلاثة أعضاء منهم كانوا يتقاضون رواتب شهرية لا بصفتهم النيابية وانما لقيامهم بمهام اضافية انيطت بهم خارج نطاق اعمال المجلس.
وقد استنوا في اعمال الاصلاح خطة في غاية الحكمة والاقتصاد وحسن التدبير مع الهمة الزائدة والنشاط المتواصل، واذا تذكر العارفون ما انجز من اعمال كبيرة وتشييد بنايات عديدة وافتتاح ما لا يقل عن عشرة دوائر حكومية جديدة كدائرة المالية ودائرة الشرطة ودائرة الامن والقضاء والجوازات.. الخ، خلال خمسة شهور وبضعة ايام لم يتيسر لهم فيها الحصول على كثير من الواردات الرئيسية من ابواب الميزانية ادركوا اي عمل رائع وجهد كبير كانوا قد انجزوه.
فمن النائب الكبير حتى الموظف الصغير في العهد النيابي كان العمل يجري بهدوء ونشاط وغيرة لانجاز المشاريع المطلوبة بالسرعة اللازمة وبأتفه وأيسر ما يكون من النفقات والاموال، ذلك ان الكل كان يدرك ان المال مال الأمة منها يستمد واليها يؤول، فليتواصوا اذا جميعا على الرفق به والتدبير في صرفه كما يتواصون على اموالهم الخاصة ونعم اجر العاملين.
المعاكسات والمعاكسون
تولدت بطبيعة الحال منذ قيام المجلس التشريعي في الكويت وسيره على سنن جديدة بايد وآراء جديدة راغبة في العمل منصرفة الى خدمة الوطن بشجاعة منتجة وتجرد من الشهوات والاغراض عدة معاكسات مبعث بعضها الحذر على المصالح القومية عند بعض وعند قوم آخرين الحقد والحسد لعدم نجاحهم في الانتخابات.
وقد اجتمع هؤلاء وهؤلاء جماعة اطلقوا على انفسهم اسم المعارضين وما كانوا من المعارضين المخلصين الصادقين، فقد اختلفت بين فئاتهم المذاهب وتنافرت الاهداف إلا في أمر واحد هو العمل لخلق الشكوك وبث العراقيل لمجرد الهدم والتخريب مهما آلت النتيجة وساء المصير. وفي طليعة هؤلاء جماعة الحاشية وأذناب السلطة وعلى رأس كل ذلك (ملا صالح الملا) الكاتب والوزير الأول الذي تحسرت عنه اسباب النفوذ وتقلصت مراسم السلطة وانقطع عنه دابر الرزق المشين، فحاول المستحيل للحيلولة دون تأسيس او نجاح المجلس النيابي، فلما باءت معاكساته بالفشل انتصب من جديد لبث الدسائس واثارة النعرات القبلية والعنصرية لبلبلة المجلسيين واثارة المشاكل في وجوههم. ولقد كان المجلسيون من قوة الشكيمة وحكمة التجاريب القاسية اصلب من ان تفلهم هذه المناورات الزائفة، واستغلوا من جهل صاحبها وتخبطه في الاكاذيب والدسائس فرصة ضربوه منها في الصميم، حتى جاء اليوم الذي بات فيه الرجل يتمرغ على اعتاب المسئوولين ليشفعوا له برضاء المجلسيين، ثم اذا به اخيرا يلوذ بالهرب من الكويت ليلا لينجوا بنفسه من سخط الشعب وسورة غضبه الرهيب، واليك القصة بالتفصيل:
هروب الملا صالح الملا من الكويت
بعد صدور القانون الأول في صلاحية (مجلس الأمة التشريعي) تفاهم اعضاؤه مع سمو الأمير على استلام كافة المصالح والدوائر التي كان يهيمن على اداراتها والاشراف عليها الجهلة واللصوص من حواشي العهد القديم -تنفيذا للقانون المذكور- وقد ارتأى هؤلاء ضرورة انشاء دوائر لحفظ الامن داخل مدينة الكويت وخارجها في البادية. ولما كان يعوز أفراد هذه المديرية السلاح اللازم وهو مخزون في الاقبية المهملة عرضة للتلف والسرقات المتعددة المشهورة من قبل المؤتمنين عليه انفسهم فاوض المجلسيون أميرهم لاستلام صناديق السلاح المودعة عند الملا صالح او بعضها. ولما كان الملا يدرك ما سيكتشف نتيجة تسليم السلاح من فضيحة في هذا الأمر بسبب السرقات المتعددة اتخذ من هذا الطلب المشروع وسيلة للتشويش حول نوايا المجلسيين ومقاصدهم، مما كان صداه حتى في آذان القنصلية البريطانية في الكويت، فاجتمع القنصل اثر ذلك بسعادة رئيس المجلس وبلغه ان أمر السلاح يهم الحكومة الانكليزية وانها لا ترتاح ان يبقى خارج قبضة حاكم الكويت الفعلية ما لم يوافق المقيم البريطاني في الخليج على ذلك.. ولهذا فانه يود من رئيس المجلس ان يطمئنه في ذلك باعادة السلاح الى مقره الاصلي، فرد عليه رئيس المجلس بمباحثة الأعضاء غدا واقناعهم بالأمر. وقد بعث القنصل ديكوري بعد ذلك رسالة الى سمو أمير الكويت هذه ترجمتها الرسمية
(حرصنا على نقل هذه الترجمة الرسمية كما وردت بحروفها رغم الاخطاء اللغوية وغيرها):(بخصوص العلائق الخارجية فمن المؤكد لم يجر اي تغيير ولا عندي شك ان سموكم قد رتبتم على ان لا يجري شئ يمس بالعلائق المذكورة من قبل اي احد في "المملكة" الا بموافقة سموكم التامة وان سموكم توافقون ان جميع علائق سموكم الخارجية تكون بواسطة صاحب الجلالة ولكني سأكون مسرورا بأن تؤكدون لي ان الامتيازات والضمانات الاجنبية لا تعتبر بدون موافقة سموكم من قبل اي احد في المملكة ولا يوافق عليها نهائيا ويمضيها الا سموكم وان العلائق مع اصحاب الامتيازات والضمانات الاجنبية تبقى وستكون باقية كما في الماضي مع سموكم وبموجب المقاولات. ولا شك انه لم يجر تغييرا في امور الدفاع ولا شك من ان المواد الدفاعية وسلاحكم معا سموكم قد استحصلتوه بواسطة حكومة صاحب الجلالة ومع ما قد ستحصلونه منها في المستقبل يبقى تحت قبضتكم او بقبضة احد منتخب من قبلكم وليس بقبضة اي احد لاي سبب ما لم يوافق عليه فخامة رئيس الخليج "اهـ")
.وقد بعث القنصل هذه الرسالة الى مكتب الملا جريا وراء العادة المتبعة سابقا لترفع الى سمو الأمير وبطبيعة الحال فقد سر الملا بهذه الرسالة سرورا كبيرا وخيل اليه ان مكائده قد اثمرت سريعا فلم يتمالك نفسه من فضــــح سرية تلك الرسالة الرسمية وجعل يطنطن في مجلس بها عند جلسائه ومخالطيه ويدلل بها على اندحار المجلسيين وخيبتهم فراجت الشائعات الكثيرة وتقولت في المجلسيين الظنون، وقد حصل في الكويت هرج ومرج سبب جزع المخلصين واستياءهم اذ تبينوا ان مصدر تلك الشائعات وباعثها الأول هو الملا صالح فحنق عليه الناس عموما وقد بيتها له شبابهم. فبينما كان المجلس منعقدا في صباح اليوم التالي وسعادة رئيس المجلس ينتظر من الأعضاء اعطاءه الجواب النهائي عن قضية السلاح لينقله الى القنصل الذي كان معه على موعد في مجلس الأمير ارتفع بغتة الضجيج المتعالي واقبل الشباب المتحمس في شكل مظاهرة امام بناية المجلس هاتفين بحياة سمو الأمير وأعضاء المجلس ومنادين بسقوط الخونة واللئام مطالبين بمقاصصتهم واخذهم بالشدة والحزم المطلوب.
وكانت هذه الظاهرة مفاجئة من الشباب لم يعرف خبرها المجلسيون ولا رئيسهم فقام سعادته وأطل عليهم مهدئا خواطرهم راجيا منهم العودة بالهدوء والسكينة، فانصرفوا بعد ان هتفوا بحياة المجلس التشريعي ورئيسه.
ولقد حانت الفرصة للمجلسيين الذين كانوا في حيرة من أمرهم حتى ذلك الوقت لأن الموافقة على رد السلاح واعادته الى مخازن الملا صالح بهذه الصورة الجبرية على ملأ من الناس فيه خذلان كبير لسمعة المجلس ونصر للملا، كما ان عدم الموافقة على طلب القنصل أمر لا يريد المجلسيون ان يتورطوا فيه فيتعرضوا بذلك الى شكوك الانكليز وسخطهم وهو في اول مرحلة من مراحل الطريق الشاق الطويل للاصلاح الداخلي، خاصة وقد علق بفضل اشاعات الملا وترويجاته في ذهن القنصل ما علق فما العمل اذا؟
تلك كانت حالة المجلس ابان هذه الازمة الطارئة، فلما جاءت مظاهرة الشباب وتعالي سخطهم اوحت الى بعضهم بخاطر سريع اسر به الى السيد علي السيد سليمان الرفاعي سرعان ما تقبله وعرضه همسا على الأعضاء الآخرين وهم يتداولون في خلوتهم دون الرئيس الذي كان جالسا وحده مستندا على كرسي الرئاسة في القاعة الرسمية ينتظر ويستعجل الرد.
تقاطر المجلسيون عندئذ الى القاعة الرسمية والتفوا حول الرئيس على المائدة البيضاوية الشكل وتكلم السيد علي مخاطبا الرئيس بالنيابة عن باقي الأعضاء -باستثناء الشيخ يوسف بن عيسى القناعي الذي كان رأيه التسليم والموافقة على طلب القنصل البريطاني دون اي تردد- قائلا:
"اننا نطالب اولا باقصاء الملا صالح من وظيفته (سكرتارية حاكم الكويت) وهي الوظيفة التي يتحصن فيها الملا ويستغلها على الدوام لعرقلة اعمال الاصلاح واثارة الاوهام والشكوك واحداث القلاقل والفتن وبلبلة الخواطر متخذا من هذا المنصب درعا يقيه القصاص والمحاسبة، وبعد ان يتنحى الملا عن منصبه نتفاهم واياكم في أمر السلاح ولن نختلف معكم في شئ".
ضربة بضربة ولكن اي الضربيتين اقسى واحكم؟ ذلك ما لا يخفى علمه على الفطن اللبيب. اذا كان الملا قد نصب نفسه حتى الآن عدوا للمجلس يثير حول نيات اعضائه الشكوك ويضع العراقيل فهيهات ان تصفو بينهم وبين سمو الحاكم بل وكافة أفراد العائلة الحاكمة العلائق الودية المطلوبة، واذا كان الملا صالح يبيح لنفسه كشف المكاتبات الرسمية السرية للنكاية بالمجلسيين والتشهير بهم فليس هو بالرجل الصالح للبقاء قي هذا المنصب الخطير من بلاط الأمير. اذاً فان فصله عن وظيفته واقصائه عن الاعمال الرسمية مدعاة للطمأنينة وتهدئة للنفوس.
ذلك هو المنطق السوي الذي ركب حجة المجلسيون وقذفوه في وجه الرئيس سهما بسهم، انهوا لنا قضية الملا ونحوه عن طريقنا معكم نتفاهم واياكم بعد على جميع ما تحبون وتشتهون..
حاول الرئيس ان يجادل في قضية الملا وان يفرق بينها وبين قضية السلاح للحصول منهم على جواب مقنع يرضى به القنصل، ولكن الأعضاء اصروا على رأيهم وتمسكوا به (لولا الملا صالح وترويجاته الكاذبة لما اعترض احد على حيازة المجلس للسلاح والتشكك في أمره، ولولا الملا صالح لما اتصل في علم الناس حقيقة الرسالة السرية ولكان من السهل عليهم التفاهم بهدوء مع القنصل على اعتماد رجل مختار يثق به سمو الأمير لتسليمه مواد الاسلحة دون ما تفريط بكرامة المجلس واثارة الخواطر). هذا هو الرأي الاخير عند المجلسيين وليس عندهم رأي سواه.
نهض الرئيس يائسا او حائرا فقد كان في طلبه رسول الأمير يدعوه الى موافاته في مجلسه الرسمي لمقابلة القنصل وهو لا يدري كيف يتصرف في الجواب مع حضرته.
- "ماذا صنعتم سعادتكم مع المجلس لاعادة السلاح؟"
- "ان المجلس مستاء يا سعادة القنصل من الملا صالح لانه ينسب اليه جميع الاسباب في اثارة هذه القضية وزرعها في طريقهم لتشويش الاذهان وبلبلة الخواطر، ولذلك فانهم طلبوا مني اقناع الأمير اولا في وجوب تنحية الملا صالح عن قصر الأمير حتى لا تتأثر علائقهم الطيبة مع سموه الى مثل هذه الريب والاكدار، ثم هم بعد ذلك لا يختلفون مع سعادتكم في التفاهم على أمر السلاح بكل طريقة مرضية".
استاء الأمير من هذا الطلب المفاجئ واعاد الرئيس ليعاود المجلسيين رأيهم في هذا الأمر قائلا انه يعدهم بانه سيوقف الملا عند حده ويكفه عن كل ما من شأنه تكدير المجلسيين او الاثارة ضدهم، ولكن المجلسيين قالوا انه لا فائدة من ذلك وانهم لا يحسبون للملا في شخصه اي حساب بيد انه ما دام هذا الرجل الدساس قابعا في القصر ملتصقا بسمو الأمير ومتصلا بمجرى الحوادث الرسمية فهو لا ينسى ابدا حقده على رجال المجلس وسيعمل جهده سرا لاثارة صدر الأمير عليهم في كل فرصة مناسبة كلما رغب هؤلاء بأمر او هموا بمسعى مفيد. واذا فان في اقصائه راحة للبلاد والعباد.
رجع الرئيس يحمل النهائي الى سمو الأمير فما فك معضلة ولا حل مشكلا.
تعصب الأمير ببقاء الملا لانه كان المستشار الوحيد في كافة الشئون، والرجل قد خدم في هذه الوظيفة ما يقارب من ربع قرن كامل فتولد في ذهن سموه استحالة ادارة الشئون العامة من غير الرجوع الى رأي الملا واستشارته، خاصة وان الملا قد احاط اعماله واساليبه من الطلاسم والرموز في مكاتباته واساليبه مما لا يتكهنها المتكهنون. اضف الى هذا ان الملا عندما ادرك قوة اصرار المجلسيين على فصله اسرع الى الأمير وطرح نفسه على قدميه باكيا ومستغيثا بسموه ان يقدر له تلك السنين الطويلة في خدمة آبائه واجداده، فاستدر بذلك عطف الأمير ووعد بالدفاع عنه.
ولكن المجلسيين مصرون على رأيهم في اقصاء الملا خصوصا وقد عرضوا كرامتهم في ذلك على ملأ من الناس، فان فشلوا فستفشل كل جهودهم المقبلة في تقويض اركان الفساد والطغيان، وستزداد قيمة الملا واهميتة في عيون انصاره ومريديه من الذين كانوا يرون في الملا داهية الدواهي في السياسة وتصريف الامور مهما عصفت الرياح واكفهرت الانواء . اذا ليس لهم الا طريق الصمود والاصرار. فصمدوا على مطلبهم واصروا على وجوب قلع الملا. اما القنصل البريطاني فانه رجا الجميع امهاله الى يوم الاثنين القادم ليجتمع الجميع عندهم في دار القنصلية بحجة احلال روح التفاهم بين الطرفين، ولعله اراد بذلك ان يستوحي برقيا رأي المقيم البريطاني الذي مقره ميناء ابوشهر من ساحل ايران على الخايج، ليستنير برأيه ويعمل بأوامره. ولما حان الاجل الموعود اجتمع سمو الأمير وسعادة رئيس المجلس واعضائه في دار القنصلية البريطانية. ولما حاول القنصل التوصل الى تفاهم بين سموه وأعضاء المجلس قال الأعضاء انه ليس من سبب يدعوهم الى التشبت بفصل الملا صالح وتنحيته عن مركزه الملتصق بسمو الأمير الا رغبتهم في تقوية اواصر التفاهم بينهم وبين سموه وان لا تحول دسائس واحقاد رجل اشتهر بكيده لرجال الاصلاح طول عمره عن التعاون بين أعضاء المجلس وأميرهم لخدمة الكويت والكويتيين خدمة سداها الاصلاح ولحمتها التجرد من الاغراض.
وبعد حوار طويل في هذا تبين ان القنصل لا يعنيه بقاء او عدم بقاء الملا صالح في وظيفته وانما الذي يهمه مسألة السلاح. فاستفهم من أعضاء المجلس عن رغائبهم من تشكيل القوة المسلحة بينما ان أمر الدفاع عن الكويت منوط بالحكومة البريطانية، ولذلك فانه يهمه الوقوف على قصد المجلسيين من تأسيس هذه القوة وما هو عدد اعضائها وكيفية تدريبهم؟ فوضح له الأعضاء ان الأمر لا يخرج عن تأسيس دائرة لحفظ الامن الداخلي في المدينة وخارج المدينة بين البادية، وليس كما اشاعوا عن تأسيس قوة للدفاع الخارجي عن الكويت، الأمر الذي لم يفكروا فيه خاصة وان ميزانية الامارة لا يمكن ان تتحمله. فاطمأن القنصل من هذا الجواب واتفق على ان يكون الشيخ عبدالله السالم الصباح ولي العهد ورئيس مجلس الأمة التشريعي هو المشرف الرئيسي على حرز السلاح، وعهد الى صالح عثمان الراشد احد اصدقاء المجلس ان يكون الرئيس المباشر لقوة البادية. وخرج الجميع بهذه النتيجة الحسنة وان لم يكن قد بت نهائيا في أمر الملا. وقد خرج الأمير من الاجتماع دون ان يتفوه بموافقته على فصل الملا، فذهب اليه بعد ذلك الحاج محمد الثنيان الغانم بصفته احد وجهاء الكويت البارزين ليحاوله في قبول وجهة نظر المجلسيين، غير ان الأمير اقنعه بالرجوع اليهم لاقناعهم بالابقاء على الملا صالح في وظيفته الحالية فان لم يقتنعوا فان سموه يتنازل عن الحكم!
بهت المجلسيون لهذه المفاجئة الخطيرة يدلي بها الأمير من اجل الملا، ولكنهم ما لبثوا ان تمالكوا روعهم، فتكلم مشعان الخضير قائلا: "لقد جعل الأمير حفظه الله عموم الكويتيين في كفة والملا صالح المتلبس الدجال في كفة اخرى فرجحت لديه كفة الملا على الجميع. لماذا كل هذه الحمية من اجل الملا وحده؟ الا انه قضى عمره في خداعكم آل الصباح وتلاعبه في شئونكم وشئون رعاياكم حتى اهلك الحرث والنسل؟!".
وقال سليمان العدساني: "ابدا نحن لا يمكننا قبول تنازل أميرنا عن الحكم ولن نقر لنا حاكم سواه، اما قضية الملا فلا سبيل الى اعادة النظر فيها".
وقال ثالث: "من المؤسف ان يعرض الأمير بمنصبه السامي من اجل شخص كالملا بعد ان تكشفت للملأ سرقاته المالية المتعددة
وفضائحه التي لا نظير لها، اننا نعز سمو الأمير ونكرمه عن مثل ذلك ولا نقبل ان نسمع منه مثل هذا الرأي".فرجع محمد الثنيان بعد ان سمع هذه الثورة العاتية من أعضاء المجلس الى قصر الأمير ينقلها اليه. وامسى مساء ذلك اليوم وقد توترت اعصاب الكويتيين جميعا. وقد ضاقوا ذرعا لعدم البت في قضية الملا مما جعل بعض الشباب يفكر بوضع حد لها من ذات نفسه..
غير ان الحاج محمد الثنيان جاء ليلا وهدأ اعصاب الجميع اذ بلغهم انه فهم من سمو الأمير ان الملا صالح رفع اليه الآن استقالته.
وما ان استيقظ الكويتيون صباحا حتى فهموا ان الملا صالح استقل سيارته الخاصة فجرا وفر بها الى الزبير خشية بطش الشباب وسورة غضبهم. وقد فهم بعد ذلك انه ذهب الى دار القنصل يبكي ويستعطف الكابتن ديكوري قنصل بريطانيا في الكويت اذ ذاك كيما يعمل على تثبيته في مركزه. غير ان القنصل افهمه انه لا يتمكن من التدخل في قضية داخلية خارجة عن حدود صلاحيته، فبيت عند ذلك أمره للهرب الى الزبير فجرا ونزل عند آل محمد الصباح. ثم بعد ان رأى استحالة العودة سريعا الى الكويت استكرى له منزلا صغيرا بالاعظمية احدى ضواحي بغداد واكمل مدة غربته فيه.
هذه هي حقيقة الفريق الأول من الناقمين على المجلسيين اعني الملا صالح واعوانه من رجال الحاشية والمتنفذين الذين تقطعت بهم الارزاق وشلت ايديهم عن التلاعب في دوائر الدولة ومواردها كالقضاء والجمارك وغير ذلك من المصالح والمنافع التي كانوا يتقاسمونها جهرا وعلانية دون خوف ولا خجل.
الفريق الثاني من الناقمين
وهناك فريق ثان يتزعمه التاجر خالد الزيد الخالد الذي خذل في الانتخابات النيابية فترأس نفر من الاحتكاريين اصحاب شركة النقل والتنزيل التي تحصلوا على امتيازها بالتواطؤ مع الملا صالح فتفردوا بخيراتها وخصوا انفسهم دون سائر الكويتيين ممن ساهموا معهم في الاكتتاب لأسهمها، غير ان هؤلاء بعد ان انهوا صفقتهم سرا مع الملا صالح بما برطلوه من اسهم مجانية ثبت تسجيلهم لها باسمه في صلب دفاتر الشركة القوا باوراق الكويتيين جميعا في اوجههم قائلين للناس هذه اوراقكم دبروا انفسكم بانفسكم، ولكن كيف يكون التدبير وقد ضمن هؤلاء الملا صالح طابخ الصفقات ومنظم الامتيازات الى جانبهم.
لقد حذر خالد الزيد وشركاؤه على مصالحهم فناصبوا المجلسيين العداء وقد صدق حذرهم اذ ان المجلس التشريعي بعد ان درس ملابسات هذا الامتياز وظروفه المريبة وتعذر عليه التفاهم بالحسنى مع اصحابه اضطر الى تأميم هذه الشركة وسماها بـ (مصلحة النقل والتنزيل) وخصص ارباحها لمنفعة المعارف والصحة وحدهما بعد ان عوض اصحابها الأولين اثمان جميع ممتلكاتها التي كانت جميعا من صافي الارباح بحزم. فشحذ هذا العمل الحازم اوار الحقد في نفس خالد الزيد بالدرجة الأولى ثم شركائه، فكرسوا انفسهم وجهودهم لمعاكسة المجلسيين ومحاولة اثارة الرأي العام ضدهم بالكلمات والدعايات المنمقة، من ذلك ترويج فكرة المطالبة بسن دستور الكويت وتحديد صلاحية المجلس رغم ان وثيقة صلاحية المجلس قد بت فيها ووقعها حاكم الكويت اول ما وقع.
وصحيح ان تلك الوثيقة التاريخية الخطيرة اقتصر فيها على ذكر صلاحية المجلس التشريعي وحدها بسبب الظروف العاجلة التي احاطت بأعضاء المجلس ابان قيامه، الا ان المروجين الآن لسن دستور كامل يحدد الصلاحيات ويصون حقوق الشعب في جميع النواحي كانوا ينادون بكلمة حق اريد بها باطل، لان هؤلاء كانوا في ماضيهم وحاضرهم انأى الناس عن الاخلاص للشعب او المطالبة بحقوقه، ولكنهم كانوا يرمون المجلس من وراء سن الدستور في هذا الوقت المتأزم احداث ازمة اما بين المجلسيين والأمير او بين المجلس والانكليز يذكون اوراقها ويستغلون حصادها وغايتهم هدم المجلس ومن فيه.
ذلك هو المأرب الأول والاخير من هذه المناورات الاثيمة. ولما كان جمهور الكويتيين خبيرا من التجارب الماضية باسرار هذه النفسيات النفعية والمخاتلة ومدركا انها انأى ما تكون عن السعي لصالح الشعب والاخلاص له فقد قابل جميع تلك الدعايات المنمقة بالسخط والنفور وصاح شبابهم قائلين: "ان في ضمائر نوابنا خير ضمان للدستور الكامل والعدالة المطلقة". وكوفئ صاحب هذه الترويجات من الشباب المتحمس بنبشهم للملأ صحيفته المنطوية على الجشع والمطامع المادية، بواسطة مناشير وزعها الشباب في جميع ارجاء الكويت وساحاتها. ولما يئس الرجل من التمويه على جمهور الكويتيين بهذه الاساليب المفضوحة جعل يحرض أفراد العائلة الحاكمة وسمو الأمير على المجلسيين بشتى الاقاويل والاكاذيب.
الفريق الثالث
ذلك هو النوع الآخر من فريق الناقمين واساليبه ووسائله. اما الفريق الثالث منهم فلا يقلون اثرا وأهمية عن سواهم، بضعة أفراد كان لهم في تاريخ الكويت اثرا محمودا من المؤازرة والمساهمة في المناداة للاعمال والمشاريع الوطنية، ولكنهم بعد ان سقطوا في الانتخابات لدخول المجلس وقفوا ذلك الموقف من اخوانهم المجلسيين رغم ان هؤلاء لا يد لهم في سقوطهم فقد دعوهم كغيرهم الى جلسة الانتخابات واشتركوا فيها بانفسهم راضين غير مكرهين وساهموا في اللجنة التي اشرفت على الانتخابات وفرز الاصوات مؤملين بالفوز فيها، غير ان الرأي العام الكويتي كان غير مرتاح الى كل من له علاقة موطدة مع الملا صالح فنقم عليهم لعلاقتهم المتينة معه والتي كان بعضهم مضطرا عليها مداراة لاعماله ومصالحه الكبيرة في وقت كان فيه الملا صاحب الأمر والنهي في البلاد فصدف الناس عنهم لهذا السبب وحده وسقطوا في الانتخابات، فحفزهم ذلك السقوط على الحقد والكيد لاخوانهم الذين نجحوا، فجعلوا يناهضونهم منذ اليوم الأول من التئام المجلس التشريعي كما اشرنا الى ذلك عند الكلام على الانتخابات النيابية واندفعوا في ذلك الى معاكسة كافة اعمال المجلس ومشاريعه الاصلاحية بل والتآمر مع المتآمرين على هدم المجلس رغم ما اكتسبه للامة من حقوق تعود منفعتها وخيراتها الى كافة الكويتيين.
اما اساليب هذا الفريق الناقم وفي طليعته ثنيان ثنيان الغانم ومحمد أحمد الغانم ويوسف عبدالوهاب العدساني فلا تقل شططا واندفاعا عن سواهم من الناقمين والهدامين وان كانت تتسم في ظاهرها بطابع المجاملة للرأي العام ويجرون فيها بشئ من الكياسة ومداراة السمعة، ولكنهم بالرغم من كل ذلك لم يصادفوا اي نجاح في صفوف الكويتيين فارتبطوا كما ارتبط الذين قبلهم برجال القصر لتحريض الاسرة الحاكمة على المجلس بحجة منافسته لهم في الحكم والنفوذ. وقد كان هذا هو الوتر الحساس الذي يصلح للنقر عليه، خاصة وان أفراد العائلة الحاكمة لم يألفوا قيام مجالس نيابية كانت تصور لهم بانها افتئات على الحكم تحد للسلطان
(لم يذكر التاريخ في الجزيرة العربية قبل قيام مجلس الأمة التشريعي أي اثر للحياة النيابية). وقد انضم الى المعارضين عضو المجلس يوسف مرزوق المرزوق في آخر الأمر بعد حادث انفصاله (كان يوسف المرزوق شخصية وطنية غريبة الاطوار متقلب الاحوال وكان ذا مزاج عصبي سريع الغضب والاندفاع حتى في الامور التي لم يتبين مدى صحتها فاستغل المستغلون هذه الظاهرة فيه فجاؤوا يستفزونه ضد مظاهرة قيل ان شباب "الكتلة الوطنية" ينتوون القيام بها غدا للهجوم على مكتب عبدالله نجل الملا صالح المعروف ولما كان عبدالله المذكور زوج ابنة اخت يوسف ثار يوسف وهاج وابرق وارعد دون ان يتأكد من صحة الزعم او يراجع بقية أعضاء المجلس لتلافي تلك المظاهرة المنتظرة، بل انه في فجر اليوم الموعود احضر سيارته الخاصة مشحونة بالسلاح لحراسة مكتب الملا ثم اخذ يتحرك في السوق طولا وعرضا يمطر الشباب غير الموجود بتهديده ووعيده ولم يخل كلامه من غمز بعض أعضاء المجلس لانهم كما يرى يتهاونون في ردع الشباب وزجره، فساء هذا الشذوذ والتصرف الفاحش أعضاء المجلس وقرروا في جلسة صاخبة حضرها يوسف المرزوق نفسه فصله من المجلس ومصادرة السلاح الذي جلبه لقمع تلك المظاهرة التي لم يدر حتى الشباب من أمرها شيئا) من المجلس فاندفاعه بغير حد الى معاكسة اعمال المجلس الذي تعاون هو وزملائه على تشييده بدافع السخط والانتقام، فكان لخروج يوسف المرزوق من المجلس وانضمامه الى صفوف الناقمين دفعة واحدة اثرا واضحا في تدعيم صفوف المعارضة وتجديد عزائمها (روي عن يوسف المرزوق انه بعد فصله قص على صاحب السمو الأمير وبقية أفراد العائلة ان المجلسيين وقد كان يوسف منهم ينوون الغاء رواتبهم جميعا وروي انه قال اكثر من ذلك . كما انه ذهب الى مدير شركة الزيوت المستر سكوت يقوده عبدالله نجل الملا صالح الذي كان حسب اتفاقية النفط يمثل سمو حاكم الكويت لدى الشركة وهناك اقسم يوسف لمستر اسكوت ان المجلس ينوي الغاء امتياز شركة النفط جريا وراء عادته في الغاء الامتيازات السابقة وبالطبع فقد كان لكلام يوسف المرزوق هذا اثرا سيئا عند العائلة الحاكمة من ناحية وعند الانكليز من ناحية اخرى، لا سيما وان يوسف كان عضوا سابقا في المجلس يعرف نوايا الأعضاء ويعلم اسرارهم رغم ان شيئا من هذا الذي قاله يوسف لم يكن صحيحا ابدا ولم يفكر به المجلسيون اطلاقا ولكنها سورة الحقد والغضب والتهور التي اشتهر بها يوسف في جميع ادوار حياته رحمه الله).تلك هي حقيقة أمر الجماعة التي اطلقت على نفسها بالمعارضة والتي دئبت فقط على معاكسة اعمال المجلس منذ اليوم الأول من تشكيله، ولكنهم جميعا لم يستطيعوا التأثير على الرأي العام الواعي لمفارقة اهدافه لاهدافهم فسخر منهم ونأي عنهم لانهم سخروا انفسهم آلات صماء استغلها المستغلون في الجانب الآخر حتى اذا قضى منهم الوطر وبلغ المأرب سخر منهم ونبذهم مع المنبوذين.
الانكليز والمجلس
كان القنصل البريطاني الكابتن ديكوري يتصور ان الكويتيين ليس فيهم من يملك زمام الرأي او يحسن التصرف في الامور ولذلك فان الأعضاء الذين سيجيئون الى المجلس النيابي لن يستغنوا عن مشورته والتصرف حسب هواه فهم ابدا مضطرون الى النزول عند ارادته والانصياع لحكمه، بيد ان تلك الصلاحية الأولى التي فاز بها المجلسيون من براثن الاسد ثاني يوم جلوسهم على كراسي المجلس التشريعي في صلاحية مجلس الأمة كشفت للقنصل عن حقيقة ما كان ليفهمها من قبل عن طريق استخباراته ورجال مكتبه فادرك عندئذ انه امام رجال اشداء يحسن به ان لا يستخف بأمرهم او يستهونهم. ثم لما بدت له تلك الروح الاستقلالية من جانب المجلسيين وحرصهم على السير بشئون الكويت سيرا مستقلا نزيها حازما لا تردد فيه ولا وجل بدأ يتحفظ معهم ويحذر جانبهم فأخذ يتحوط لنفسه ويبالغ في تأكيده لحقوق الحكومة الانكليزية المكتسبة في الكويت تارة بالاقوال واخرى بالرسائل الرسمية المتكررة التي يعنونها باسم صاحب السمو حاكم الكويت، ومن ذلك تلك الرسالة الأولى التي اكد فيها على حقوق الحكومة الانكليزية في معالجة الامور الخارجية والدفاعية لامارة الكويت واليك نصها:
الى حضرة حميد الشيم صاحب السمو السر أحمد الجابر الصباح المحترم
كي . سي . أس . آي حاكم الكويت
بعد التحية والاحترام
قد اوعزت الي حكومة صاحب الجلالة ان اخبر سموكم ان قد بلغهم بعين الرضى عن تأسيسكم المجلس. وقد علموا ان باتخاذكم هذه الخطة التي يؤملون ان تتقدم بها اهم مصالح الكويت سموكم كنتم متحمسين برغبة لاشراك ممثلي شعبكم بادارة احكام سموكم.
2- حكومة صاحب الجلالة واثقة على الاستمرار في المستقبل كما كان في الماضي للعلائق الحسنة التي كانت مستمرة لتلك المدة الطويلة بينهم وبين حاكم الكويت ولا شك بعدم حدوث اي تغيير بالترتيبات الحالية التي بمقتضاها حكومة صاحب الجلالة تدير شئون الكويت الخارجية.
5 اكتوبر 1938
المقيم السياسي في خليج فارس
وقد تصرف المجلس التشريعي تصرفا حسنا في الجواب على تلك الرسالة الرسمية دون ان يعرض نفسه لارتياب الانكليز وهو في بداية أمره كما تقضي بذلك الحكمة مع عدم تسليمه شفويا بالحقوق التي ورد ذكرها برسالة المقيم البريطاني في ممارسة الشئون الخارجية قبل ان يتيسر له الوقوف على أمر المعاهدات او الاتفاقات الرسمية المكتوبة التي عارض القنصل في السماح للأمير باطلاع المجلس عليها بحجة انها كانت سرية. وهذا هو نص الجواب الذي حرر من قبل أعضاء الديوان الأميري ووقعه سموه:
حضرة صاحب الفخامة المقيم السياسي في الخليج
بعد التحية والاحترام
سرني كتابك المرقم س/731 المؤرخ 5 اكتوبر 1938 المتضمن ايعاز حكومة صاحب الجلالة البريطانية لكم لتبليغها من ارتياحها من تأسيسنا مجلس الأمة التشريعي واقتناعها بان اتخاذ مثل هذه الخطة سوف تكون لها نتائجها المحسوسة في تقدم اهم مصالح الكويت .
(1) اني اشكر لحكومة صاحب الجلالة البريطانية تقديرها واستحسانها عن رغبتي الاكيدة التي نفذتها في تأسيس هذا المجلس بعد ان احسست من شعبي رغبة واستعدادا قويين لادارة شئون البلاد وتحمل جميع مسؤولياتها .
(2) كما اني اؤكد لحكومة صالحب الجلالة البريطانية ثقتها بان العلائق الحسنة المستمرة فيما بيننا كل تلك المدة الطويلة ستبقى في المستقبل -كما كانت في الماضي- مصونة في حدود كافة الاتفاقات والمعاهدات المبرمة مني او من حكام الكويت السالفين.
هذا وتقبلوا فائق الاحترام
11 اكتوبر 1938
17 شعبان 1357
حاكم الكويت
وقد كان القنصل قد ابلغ أعضاء المجلس بدء قيامه انه لا يستطيع التراسل معهم التراسل معهم مباشرة في الشئون الرسمية التي تجري بين حكومته وامارة الكويت، واقترح عليهم انتداب عضوين منهم ليكونا واسطة نقل الاتصال الرسمي الذي يتم بينه وبين سمو الأمير الى أعضاء المجلس. وقد وافق المجلسيون على ذلك وانتدبوا منهم العضوين سليمان العدساني ومشاري الحسن البدر لهذه المهمة وليقوما ايضا بمهمة رئاسة الديوان الأميري في الشئون الرسمية وحدها بقصر السيف المقر الرسمي لحاكم الكويت بالنظر لتفرغهما ومعرفتهما بهذه الامور.
وذات يوم التقى بي السكرتير الشرقي للقنصل البريطاني وحدثني قائلا: "ان القنصل عاتب بعض الشئ على أعضاء المجلس لانهم يبتون في بعض الامور التي قد تتصل بالشئون الخارجية دون الرجوع الى اخذ رأيه او تبليغه على الاقل، من ذلك انه بلغه انهم قرروا جلب مفوض شرطة عراقي لتدريب أفراد الشرطة في الكويت كما انهم كاتبوا وزير المعارف العراقي لقبول بعثة من تلاميذ المدارس الكويتية في مدارس العراق وعلى نفقة الحكومة العراقية، بينما امثال هذه الامور تدخل في الشئون الخارجية التي لا يمكن معالجتها بغير توسط الحكومة البريطانية، ولكن حيث ان هذه القضايا عادية وانها من اجل العلم فان القنصل غير مهتم جديا بها، ولهذا فقد أمرني ان اخاطبك انت بها شفاها لانه لا يرغب ان يجعل منها قضية رسمية".
فقلت للكاتب: "ان شاء القنصل فاني ارفع لأعضاء المجلس هذا الأمر وابلغكم بالجواب".
قال الكاتب: "لا حاجة لذلك فان القنصل لم يقصد سوى التنبيه وانه يقول انه كان يتمنى على أعضاء المجلس ولو من باب المجاملة ان يحيطوه مقدما بامثال هذه الامور كيلا يتأأأتى سوء فهم في غير محله".
فأجبته قائلا: "ان الذي اعلمه ان أعضاء المجلس لم يقرروا او يفكروا بجلب مفوض شرطة من العراق لتدريب أفراد الشرطة الكويتيين وقد يكون هذا الزعم دسيسة دست على سعادة القنصل لاثارة شكوكه وارتيابه لتعكير صفو التفاهم بين الجانبين. كما ان أعضاء المجلس لم يكونوا يتصورون ان الاتصال بوزارة المعارف في العراق أو مشيخة الازهر بمصر يسبب جزع القنصل او يمس بمهمته اذ قد سبق لرجال معارف الكويت في عهد قريب مضى ان خاطبوا وزارة الاوقاف العراقية لقبول بعثة من تلاميذ في كلية الامام الاعظم في بغداد وكنت انا احد أفراد تلك البعثة، وقد تبودلت عدة رسائل مع وزارة الاوقاف العراقية كون ان يسبب ذلك جزع القنصل البريطاني الموجود او اعتراضه، هذا بالاضافة الى ان أعضاء المجلس ليسوا مطلعين على الاتفاقيات والمكاتبات القائمة بين أمراء الكويت والحكومة الانكليزية حتى يتسنى لهم التمييز بما يسئ وما لا يسئ الى حقوق الانكليز لانهم حرموا من ذلك من قبل سمو الأمير بحجة معارضة سعادة القنصل نفسه وانهم يكونون ممتنين لو وضحت لهم حقيقة تلك الاتفاقيات كيلا يحدث منهم بحسن نية ما لا يرغبون في حدوثه..".
وذهب الكاتب مقتنعا من قولي ليقنع القنصل فيه بينما وافق أعضاء المجلس على جميع اجوبتي ولكنهم قرروا تكليف العضوين عبدالله حمد الصقر وسليمان خالد العدساني بزيارة القنصل اسبوعيا او كل اسبوعين مرة واحدة من باب المجاملة ولتوضيح حسن نوايا المجلسيين.
وحدث ذات مرة ان القنصل نبه ذينك العضوين في احدى الزيارات الخاصة انه لا يحسن بالمجلس ان يكاتب مباشرة شركة نفط الكويت (وهي شركة انكليزية أمريكية وصاحبة اكبر امتياز للنفط في الكويت) وطلب حصر التخاطب معها بسمو الأمير نفسه.. فاستغرب المجلس هذا الرأي تجاه شركة تجارية محضة حكمها كحكم الشركات الاجنبية الاخرى الموجودة في الكويت، بينما ليس من المتبع ان يمارس الحاكم شخصيا حتى الامور العادية التي تتكرر مرارا، اما في الامور الجوهرية فاقروا انه لا يمكن التصرف بها دون معرفة الأمير وقالوا ان الرأي الذي اشار اليه القنصل يعطي الشركة صفة حكومة اجنبية داخل اراضي الكويت لا يجوز التخاطب معها الا بواسطة الرأس الاعلى في البلاد وهو بحكم التقاليد لا يمكن مباشرة اي عمل الا بواسطة المسؤولين.
وبقيت هذه المسألة بغير حل الى ان وصل المقيم البريطاني الى الكويت واجتمع مع فريق من أعضاء المجلس واتفق واياهم ان يستمر عبدالله الملا صالح ممثل سمو حاكم الكويت لدى شركة نفط الكويت على التكاتب معها ويرسل للمجلس صورا من تلك الرسائل المتبادلة ومتى رأى المجلس وجهة نظر معينة أوعز الى المذكور ان يكتب بها الى الشركة كما يرون، وانتهى الأمر بسلام.
ان توحش مدير شركة نفط الكويت الانكليزي المستر سكوت من حزم وعزم أعضاء المجلس الذين جدوا في الغاء كثير من الامتيازات والاحتكارات الضارة التي منحت في العهد الغابر بالطرق المشبوهة المعروفة فخشى ان يأتي دور امتياز شركة النفط الذي أُخذ ايضا بطرق واساليب ارغامية معروفة. وقد تكاثر هذا الوهم لديه من دسائس عبدالله الملا صالح والكولونل داكسن قنصل بريطانيا الاسبق في الكويت والذي اصبح ممثل شركة الزيت تجاه حاكم الكويت، اما الأول فلأنه كان يخشى ان يحرمه المجلسيون من مركزه الخطير (ممثل سمو حاكم الكويت لدى شركة نفط الكويت) كما حرموا اباه من وظيفته من قبل، واما الثاني فلكونه يكره المجلسيين منذ قيامهم لانهم جردوا وظيفته من ميزتها الممتازة في عهدهم حيث اصبح المجلس هو المسير الحقيقي لكافة الشئون التي تتصل باعمال الشركة. وقد استطاع هذان الممثلان بالتكرار والمبالغات الكثيرة ان يسمما افكار المستر سكوت تجاه نوايا المجلسيين ومقاصدهم مما حدى به الى الذهاب مرارا الى القنصل وطرح تلك الشكوك وتجسيمها امامه مما اضطر القنصل الى مصارحة عضوي المجلس بمخاوف سكوت وشكوكه، فأكد له ذينك العضوين عدم وجود شئ من تلك النوايا حول الغاء امتياز شركة النفط وشرحا له ان هذه الوساوس تتسرب الى نفس المستر سكوت من الرجال الذين يتصلون به ولا تخفى اغراضهم ضد المجلس. وقد اطمأن القنصل في بداية الأمر الى تأكيدهم ولكن مع التكرار ثم ادعاءات يوسف المرزوق الذي ورد ذكر فصله من المجلس وقد جعل القنصل شيئا فشيئا يحاذر من المجلسيين لا سيما وقد رأى من اقدامهم وجرأتهم في امور الاصلاح ما يوحي بالحذر فخشي ان يأتي يوم ويفاجئه المجلسيون بما ليس في الحسبان فتفشل سياسته وتسوء سمعته تجاه حكومته التي اخذت بنصحه وعملت برأيه في تأييدها مطلب الوطنيين بمشاركة الكويتيين في ادارة شئون امارتهم . زد على ذلك انه لم يجد ما يتوقعه من أعضاء المجلس من الخضوع والرجوع اليه في المشاريع والاعمال الاصلاحية التي يسنونها بجرأة وصلابة فيئس منهم ثم عمد الى الحيلة لتحديد نفوذ المجلسيين وصد تيارهم فبدأ يتقرب من الأمير ويكثر من التردد عليه -بعد ان كان يقلل من ذلك- ليحرك من ساكنه ويثير من همته ليوجد لنفسه كفة توازن بين الجانبين اذا رجح نفوذ احدها ما الى الآخر فتكون له بذلك الكلمة النافذة والرأي المسموع
(وبلغني ان القصر ايضا او من فيه جعلوا يتقربون من القنصل وقدموا له بعض الهدايا عقد من اللؤلؤ وغير ذلك).اما أعضاء المجلس فقد كانت خطتهم ترمي الى التفاهم التام مع الأمير واكتساب وده ما امكنهم ذلك لانه لا خطر بعد التفاهم واياه على المصالح الجوهرية الكويتية، اما القنصل فكانوا يظنون انه لن يعترض سبيلهم في الاصلاح ما داموا بعيدين عن التفكير بالاحتكاك بالمصالح البريطانية لا سيما التعرض لامتياز شركة النفط. غير ان الواقع خطأ تقديرهم. فالقنصل بالاضافة الى الشكوك التي زرعها المغرضون والحاقدون في نفسه فانه يسيئه ان يغفله المجلسيون من حسابهم وعدم مراجعتهم له حتى في الشئون الاصلاحية المحلية، واذا فمن حقه ان يغضب لعدم مراجعة المجلسيين له بمكاتبتهم وزارة معارف العراق ثم مشيخة الازهر بشأن قبول التلامذة الكويتيين وهو من حقه ان يغضب لجلب المجلسيين مهندسا معماريا من العراق لاستشارته في وضع تصميم للمستشفى الأميري المنوى اشادته في شرقي مدينة الكويت وبعض البنايات الحكومية المستجدة دون الرجوع الى اخذ رأيه مقدما كما ان من حقه ان يغضب لاتخاذ المجلس بعض القرارات الشديدة لتوقيف تيارات الهجرة الايرانية الماحقة قبل ان يسألوه رأيه فيها، كل ذلك وغيره في نظره مما يمس من قريب او بعيد في الشئون الخارجية التي من اختصاص حكومته التمرس فيها.
اما المجلسيون فقد كانت وجهة نظرهم ترمي الى صيانة الشئون الداخلية للامارة من التدخل الاجنبي الذي يؤول حتما في آخر الأمر الى السيطرة التامة وحرمان الوطنيين من ادارة شئونهم الذاتية طبقا لميولهم ومنافع قومهم، فالتساهل مثلا في أمر المعارف واختيار المعلمين وارسال البعثات الى المدارس الخارجية بغير تدبير الكويتيين واختيار المعلمين وارسال البعثات الى المدارس الاستعمارية، كما حدث ذلك في مصر والبحرين وغيرهما. اما انتخاب الرجال الفنيين من قبل السلطة الاجنبية فمعناه جلبهم من الانكليز والهنود الذين لا يتحركون الا طبقا لما توحيه لهم السلطة التي جلبتهم فضلا عما تكلفه رواتبهم ومخصصاتهم الضخمة من تكاليف تنوء بها مرافق الامارة الضئيلة.
تلك كانت وجهة نظر المجلسيين ومبلغ حرصهم على الامانة التي اؤتمنوا، لن نتعرض للانكليز ولا لمصالحهم المكتسبة في حدود المكاتبات والاتفاقيات المبرمة ولكننا لا نرى لزاما علينا الرجوع الى رأي القنصل واستشارته في الشئون الخاصة التي تتصل بامورنا واحوالنا الداخلية خاصة وقد كان يكرر على الكويتيين القول حتى من جانب كبار المسؤولين الانكليز "ان الكويتيين مستقلون تمام الاستقلال في امورهم الذاتية".
وقد جاءني ذات يوم احد الشباب المتحمسين وسألني وهو يرتجف غضب: "ما بالكم وكل هذا التردد والتخوف في مواجهة الأمير وقد بدى منه ما بدى في التمنع والتلكأ في توقيع القوانين؟"، قلت: "ان أعضاء المجلس يا صاحبى بين أمرين، اما التفاهم مع الأمير ومداراته في الشئون التي لا تمس جوهر الاصلاح فيسلموا على بلادهم وكيانهم من تدخل الانكليز الذين لا سبيل لهم اليه ما دام الراعي والرعية على وفاق، او التفاهم التام مع الانكليز ولو ضيعوا في ذلك استقلالكم وكيانكم، وعندها يسلمون على انفسهم وكراسيهم الى ابد الآبدين، وقد اختار المجلسيون التفاهم مع أميرهم فان وفقوا في ذلك وفقنا جميعا الى ما فيه سعادة الكويت واهلها اما اذا فشلوا فقد برئوا ضمائرهم وأدوا الامانة التي في اعناقهم وحسبكم منهم ذلك".
ذلك هو المنهج الذي اختاره أعضاء مجلس الأمة في بداية أمرهم وقد عملوا كل جهد من جانبهم للتفاهم مع الأمير على تقدم شئون بلادهم والسير بها حثيثا في مضمار الاصلاح والرقي ولكن سموه جاملهم في بداية الأمر مسايرة للظروف ولكنه كان يكن في نفسه ما يكن ولا سيما وقد كان يصور اليه ان قيام المجلس وهيمنته على شئون الادارات مساً لكرامته ومزاحمة لسلطانه ناهيك بالشئون المالية التي كانت فيما مضى ملكا لفرد واحد يتصرف بها كيفما يشاء. هذا بالاضافة الى ان سمو الأمير كان في نفسه ما فيها من اثر كامن ضد مواقف بعض أعضاء المجلس ممن كانوا أعضاء في مجالس البلديات ومجالس المعارف السابقة التي فصلنا شرحها فيما مضى.
كل ذلك كان يعتلج في نفس سموه طوال ايام المجلس ويثيره ويستفزه فيه رجال السوء الذين تخربت اعمالهم المريبة في العهد النيابي النزيه. حتى اذا واتت الفرصة وبدأ القنصل يتبرم من المجلسيين ويتقرب من سموه برز تدريجيا الاثر القديم الكامن فبدأ يتلكأ اولا في الموافقة على مقترحات المجلسيين وينتقد تصرفاتهم ثم جعل يتعنت معهم في الامور ويمتنع عن التوقيع على القوانين العادية دونما سبب ولا تعليل ففشلت سياسة المجلسيين التي استهدفوها لصالح الكويت وسعادة ابنائه. وان مسؤولية ذلك لتقع اولا وبالذات على اولئك الذين كانوا لا يعرفون من حقوق الوطن الا التشبت بتحقيق نوازعهم واغراضهم الخاصة مما لم تخف خافيتهم على الكويتيين.
وبينما كانت الامور تجري على هذا المنوال شجرت فتنة بين شاب
(هو منصور موسى المزيدي) من مناصري المجلس وشاب آخر احسائيا جعفريا اشتهر بدسائسه الكثيرة ضد المجلسيين لانه كان شريكا لعبدالله في بعض المصالح المادية العديدة فاتخذ هذا الشاب الجعفري من المشاجرة الشخصية التي وقعت بينه وبين الشاب السني وسيلة لتحريض بني مذهبه ضد المجلسيين وجعل يتباكى على عادته المعروفة عند الجعفرية من الايرانيين والاحسائيين المستوطنين قديما في الكويت مدعيا ان اعتداء وقع عليه بسبب مذهبه، وقد صادف هذا التحريض الباطل هوى في نفوس الايرانيين الذين طغت عليهم نفحة القومية العربية في عهد المجلس وحمسهم المهيجون فتوافدوا الى الحسينية كيما يجمعوا أمرهم على رأي ويطالبوا بحقوقهم المهضومة حسب زعمهم. اما الاحسائيون وهم الجماعة الذين ينتمي اليهم الشاب الجعفري فقد تبينوا حقيقة المشاجرة التي حصلت ولم يجدوا فيها وجهاً للتعصب المذهبي المزعوم كما انهم كانوا يعلمون حقيقة الشاب المذكور وصلاته بعبدالله الملا صالح فتبرأوا من تلك الحركة الانتهازية التي اريد لهم التورط فيها لا سيما وقد كانوا يدركون مكانتهم المحمودة عند باقي اخوانهم الكويتيين اذ كانوا من العرب الاقحاح.اما الايرانيين فركبوا شيطان العنصرية وعلت اصواتهم بالهتافات والتصفيق داخل الحسينية لخطبائهم الذين كانوا يحرضونهم على المظاهرات والاضراب، واخيراً حرر احد علمائهم المعروف كتابا الى المجلس التشريعي يتضمن مطالبة هؤلاء بتخصيص بعض المقاعد لهم في مجلسي البلدية والمجلس التشريعي كما طالبوا مساواتهم بالوظائف الحكومية جميعها، وكانت هذه اول بادرة من بوادر الحذر التي يخشاها الكويتيون من استفحال أمر الهجرة الايرانية الى الكويت، وقد عرف من نية هؤلاء انهم يبيتون القيام بمظاهرة كبيرة واضراب شامل ما لم ينالوا كافة مطالبهم.
لكن المجلسيون غضبوا لهذا الاستغلال الشائن بدافع النعرة العنصرية وتناسي هؤلاء عاطفة الاخوة الاسلامية وحقوق البلاد التي آوتهم فآمنتهم من خوف واطعمتهم بعد جوع وادركوا ان التساهل مع هؤلاء واكثرهم من الحمالين والغوغاء قد يؤدي الى نشوب
(..) عنصرية تكون لها نتائجها البعيدة في تاريخ الكويت لذلك اجمعوا أمرهم الى اهمال الكتاب المذكور واصدروا أمرهم الى بعض رجال القوة بالطوفان في الشوارع بالسيارات المسلحة لارهاب من تحدثهم انفسهم بالقيام بالمظاهرات والاعمال العدائية بينما ذهب فريق من أعضاء المجلس الى العالم الديني الذي تطوع بعرض تلك المطالب يناقشونه في رأيه وأمر تلك المطالب التي عرضها اذ كان يدرك ان الايرانيين القدماء في الكويت قد دعوا كسائر الكويتيين الى الانتخابات والتصويت فيها فلم يعترض احد منهم في شئ لا قبل الانتخابات ولا بعدها، فماله اليوم يخرج من صفته الدينية للولوج في مثل هذه الامور التي قد تجر الى تفرقة وبلايا ليس من صفة اهل الدين التورط فيها؟غير ان العالم المذكور وقد ادرك لهجة الجد اعتذر متنصلا من الحركة وقال انه انما طلب اليه ان يعبر بكتابه عن رغبة المجتمعين المحتشدين في الحسينية فقط وليس له من رأي خاص في هذا الأمر. اما المهيجون فقد انكمشوا في اماكنهم لما شاهدوه من حزم سريع واعتذر بعضهم بينما زعم آخرون انهم انما زج بهم في هذه الحركة بايعازات خارجية معروفة.
وقد طاف بعد ذلك خدم القنصلية البريطانية وكانوا جميعا من الايرانيين على جماعتهم يرغبونهم بالتجنس بالجنسية (الانكليزية الهندية) طالبين منهم رفع عرائض اجماعية الى دار القنصلية في الكويت. وقد فهم الناس ان هؤلاء الخدم لا يمكن لهم القيام بمثل هذا العمل لو لم يكونوا بطبيعة الحال مدفوعين الى ذلك من القنصل نفسه وهو الذي كان يعتمد عليهم ويصغي الى كثير من تقولاتهم ضد المجلسيين، وتهافتت العرائض بعد ذلك الى دار القنصلية البريطانية بالمئات فالالوف من هؤلاء الايرانيين طالبة التجنس بتلك الجنسية التي قيل لهم عنها انها تمكنهم من نيل كثير من الامتيازات في المعاملات التجارية والحقوقية في الكويت.
ولما كان في تجنس هؤلاء جميعا وهم يبلغون ما يوازي ثلث سكان الكويت بجنسية واحدة (هي الجنسية الهندية الانكليزية) خطر عظيم على كيان الكويت والكويتيين خاصة وان تلك الجنسية تمثل الحكومة ذات النفوذ الفعلي في الكويت، فقد اثار ذلك اهتمام الكويتيين اجمع وجزعهم بما فيهم الفئة الغيورة من المعارضين انفسهم.
لهذا تداول أعضاء المجلس طويلا في هذا الأمر ووجدوا انهم لا يسعهم الجمود اثر هذا الخطر الداهم فقرروا علاج الأمر بوسيلتين، الأولى انهم اصدروا هذا القرار الجرئ واعلنوه في كل جانب من جوانب الكويت:
"كل من تثبت عليه محاولة التجنس بجنسية اجنبية يجب عليه الاستعداد لمغادرة الكويت خلال شهرين من تاريخ تلك المحاولة مع حرمانه كليا من حقوق امتهان اية مهنة او تملك اي عقار داخل حدود امارة الكويت"
رئيس مجلس الأمة التشريعي
عبدالله السالم الصباح
والثانية هو ذهاب فريق من أعضاء المجلس الى دار القنصلية ومقابلتهم القنصل فيها حيث كشفوا له مبلغ جزع عموم الكويتيين من محاولة هذا الفريق الكبير التجنس بجنسية تمكنهم من الامتياز على الكويتيين الاصليين داخل بلادهم في كثير من الحقوق والمعاملات وان هذه المحاولات ربما ادت الى نشوب فتن وحوداث ليس من صالح احد اثارتها في مثل هذا اليوم، وانهم من جهتهم معتمدين عدم التساهل مع هؤلاء الذين يجب عليهم الرحيل عن البلد الذي لا يرون الانسجام مع اهله الاصليين وحسن التفاهم معهم.
وقد ناقش القنصل هؤلاء الأعضاء في المطالب التي تقدم بها الايرانيين ولماذا لا يجابون الى ما طالبوا في المساواة؟
(لا يخفى على القارئ ان قانون الجنسية الكويتي لم يكن قد صدر حينذاك فليس يعرف الكويتي من سواه بقانون معين وانما كان التعارف ان الكويتي هو من سكن الكويت قبل الحرب العالمية الأولى، ولما صدر قانون الجنسية الحالي عام 1960 حدد الكويتي الاصلي انه الساكن او المتحدر من ساكن للكويت عام 1920 أو قبل ذلك).فلما قيل له: "ان الكويتيين لا يعترفون بحق الذين نزحوا الى الكويت بعد الحرب العالمية في اكتساب الجنسية الكويتية اما اولئك القدامي فلهم ما لنا وعليهم ما علينا من حقوق وواجبات".
قال: "انه لم يشجع احد على طلب التجنس بالجنسية الهندية ولكنه لا يسعه ان يرفض اي طلب او عريضة او كتاب يتقدم به صاحبه الى دار القنصلية مهما كان موضوعه، اما الحصول على الجنسية الهندية فانه يعتقد ان ذلك ليس من السهل الحصول عليه الا لمن تتوفر فيه الشروط الخاصة التي ينص عليها القانون الهندي". وانتهى الأمر عند هذا الحد ولكن هذا الحادث بل والتحدي زاد بطبيعة الحال من فتور العلاقات بين القنصل وأعضاء المجلس اذ انه كان الاحتكاك المباشر الأول بين الطرفين.
فلما جاء المقيم البريطاني عقيب هذه الحوادث الى الكويت طلب ان يجتمع بلجنة تمثل المجلس بحضور سمو الأمير وسعادة رئيس مجلس الأمة فأنتدب المجلس كل من سليمان العدساني ومشاري الحسن والسيد علي السيد سليمان واجتمع الجميع بقصر الأمير الساحلي (قصر السيف) يوم 15 اكتوبر 1938 الموافق 21 شعبان 1357 وحضر الاجتماع الكابتن دكوري قنصل بريطانيا في الكويت وكان يتولى مهمة الترجمة بين المقيم البريطاني وباقي المجتمعين. وقد جرت عدة محادثات عامة كان اهمها البحث في أمر شركة الزيت إذ طلب المقيم ان يكون اتصال الشركة مع سمو الأمير مباشرة ولا صلة للمجلس بها، ولكن المجلسيين تشبتوا في حجتهم محاولين اقناع المقيم بصورة منطقية شذوذ هذه الخطة عن الاصول السليمة. ولما حاول المقيم اقناعهم ان يجربوا هذا الأمر لمدة شهرين فقط حتى اذا وجدت صعوبة يرجع الى رأيهم، غير انهم رجوا منه ان تكون التجربة الأولى على الوجه المستقيم الذي يرونه هم فاذا حدث ما يستوجب التغيير كان للجانب الاقوى وهم الانكليز ان يعدلوا في الخطة.. وسكت المقيم عند هذه النقطة وفهم ان سكوته كان سكوت الاقتناع.
ثم تحدث المقيم عن مقام سمو الأمير فاشار الى ضرورة اعتباره الحاكم الاعلى الذي تجرى معه او بواسطته جميع المخابرات السياسية وغيرها من الامور الجوهرية في البلاد. فرد أعضاء المجلس قائلين: "ان ذلك هو الدعامة الأولى التي ترتكز عليها سياسة المجلس طبقا للاصول الملكية النيابية وليس فيهم من يتصور غير ذلك".
ثم جاء الكلام عن الايرانيين المقيمين في الكويت وما هو تقدير عددهم والتدابير المتخذة من جانب المجلس معهم، فتكلم أعضاء المجلس قائلين: "ان هذه الهجرة التي استفحل أمرها ليس لها ما يماثلها في بلدان العالم بالنسبة الى كثرتها وانطلاقها من غير شروط"، فقال المقيم ان لا يعنيه الآن اتخاذ المجلس بعض التدابير لتسفير المهاجرين الجدد الى خارج الكويت ولكنه ينصحهم ان يتم ذلك بصورة تدريجية وهادئة كيلا يؤدي هذا الأمر الى تذمر الحكومة ذات الشأن فيضطر هو الى التدخل. فافهمه أعضاء المجلس ان التدابير التي اتخذت حديثا ليست الا لتوقيف الهجرة الغير مشروعة اما تسفير المهاجرين فلم يتقرر شئ منه حتى الآن.
وانفض الاجتماع بكثير من التفاهم والهدوء ولو انه كشف للمقيم البريطاني عن قوة معنوية المجلسيين وحرصهم على التمسك بالامور التي يرونها حقا لهم ولو ان ذلك كله جرى بلهجة ودية ملؤها الحكمة والتعقل.
وقبل سفر المقيم البريطاني من الكويت بعث الى سمو الأمير هذه المذكرة المهمة:
ادارة رئيس الخليج الفارسي
مركز الكويت 20 اكتوبر 1938
الى حضرة حميد الشيم صاحب السمو السر أحمد الجابر الصباح المحترم
كي. سي. آي. اس. آي. حاكم الكويت
بعد التحية والاحترام
كما تعلمون سموكم في 15 اكتوبر 1938 قد عقد اجتماع بين سموكم والشيخ عبدالله السالم ولجنة من المجلس
(كان الانكليز يتحاشون تسمية المجلس بمجلس الأمة التشريعي) وانا والكابتن دكوري وقد ذلك الاجتماع قد ابلغت اللجنة شفاهيا عن رسالة من حكومة صاحب الجلالة التي ارفق بطيه نسخة منها للاحتفاظ بها في دائرة سموكم.2) سموكم تذكرون ان اللجنة قد ابدت تقديرها للرسالة وسأكون مسرورا بوقته ان ابلغ حكومة صاحب الجلالة بذلك.
تفضلوا بقبول فائق الاحترام
خطاب ترنجارد فاول الشفوي الى المجلس الكويتي:
أ) حكومة صاحب الجلالة قد بلغها مع الارتياح عن قرار الشيخ على تأسيس مجلس بقصد اشراك ممثلين اهل الكويت مع نفسه في شئون حكومته. حكومة صاحب الجلالة تؤمل ان مثل هذه الخطوة ستقدم بها اهم مصالح الكويت.
ب) ولحتى على كل حال تتحقق هذه النتيجة فالمجلس يدرك ضرورة الاحتياج للتعاون برغبة الى اقصى حد ممكن بين المجلس والحاكم.
ج) وكذلك المجلس يدرك انه اي تغييرات داخلية في الكويت مثل تأسيس المجلس لا تؤثر على المركز الذي به حكومة صاحب الجلالة تعتبر الشيخ انه رئيس المملكة الذي معه ستستمر علائقهم الرسمية.
د) علاوة المجلس لا شك يدرك ان مثل تلك التغييرات لا تؤثر على الترتيبات الحالية المستندة على المعاهدة والممارسة الطويلة والتي بموجبها حكومة صاحب الجلالة تدبر شئون الكويت الخارجية مع غيرها من الحكومات والممالك وتدير بواسطة الشيخ الامور التي تمس بتلك العلائق او الاجانب بالكويت.
وقد عرض سمو الأمير بواسطة عضوي الديوان الأميري هذه الرسالة على أعضاء المجلس التشريعي وطلب رأيهم في الجواب عليها وقد كانت العادة فيما مضى ان سكرتير القنصلية البريطانية في الكويت يحضر الى مكتب الملا صالح الملا سكرتير سمو الأمير الأول ليتولى بنفسه صياغة جواب سمو الأمير، فلما انتدب سليمان العدساني ومشاري الحسن عضوي مجلس الأمة ليكونا في الديوان الأميري اتفق سموه معهم وحررا الجواب بهذا النص:
6/1092
6 رمضان 1357
29 اكتوبر 1938
حضرة صاحب الفخامة السر ترنجارد فاول المقيم البريطاني في الخليج
بعد التحية
بالاشارة الى رسالتكم المؤرخة 20 اكتوبر 1938 والمرفق معها صورة من خطاب فخامتكم الشفوي الى مجلس الأمة التشريعي التي بعثتها اليكم بتاريخ 11 اكتوبر 1938، يهمني ان اوضح لكم ما يأتي:-
1) بعد ارادتي التي اصدرتها بتاريخ 11 جمادي الأولى في شكل قانون في صلاحية مجلس الأمة التشريعي والتي جاء في المادة الأولى منها (الأمة مصدر السلطات ممثلة في هيئة نوابها المنتخبين) اصبح بديهيا ان البلاد جعلت تسير حسب القانون وفق نمط ديمقراطي ولكي تكون جميع الاوامر والاحكام والاتفاقات الناطقة باسم "حكومة الكويت" شرعية ومعتبرة لا بد من موافقة المجلس المذكور عليها في جلسة قانونية.
2) ان أعضاء اللجنة الموفدة من المجلس المذكور والتي اجتمعت بي وبفخامتكم وبالشيخ عبدالله السالم والكابتن دكوري قد اوضحوا لي ان المجلس بعد وقوفه على خلاصة المحادثات التي دارت خلال ذلك الاجتماع يقرر ما يأتي:
أ) ان المجلس معتمد جد الاعتماد على ان يبقى الشيخ أحمد الجابر الصباح هو رئيس البلاد الاعلى ولكي يسهل الاتصال بين حكومة صاحب الجلالة البريطانية وحكومة الكويت بدون مساس في الصلاحيات الممنوحة لمجلس الأمة التشريعي حسب ارادة سموه الصادرة بتاريخ احدى عشر من جمادي الأولى 1357 قد انتخب بعد محادثات سابقة مع الكابتن ديكوري عضوين من اعضائه لكي يكونا واسطة نقل ذلك الاتصال بين سموه والمجلس
.ب) ان المجلس مقتنع حتى الآن انه ليس في النية اجراء اي تعديل جديد لا من قبل حكومة صاحب الجلالة البريطانية ولا من قبل حكومة الكويت على العلاقات والاتفاقات الكائنة بين الحكومتين حسبما رسمته المعاهدات والاتفاقات السابقة المبرمة من قبل حاكم الكويت الحالي وحكامها السابقين.
ج) ان المجلس مقتنع باهمية وفائدة الصداقة والمؤازرة الانكليزية التي ستبقى دائما هدف المجلس التشريعي في كافة الشئون السياسية.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
حاكم الكويت
أحمد الجابـــر الصباح
والملاحظ في أمر هاتين الرسالتين المتبادلتين هو ان المقيم البريطاني رغم تعبيره عن اعتراف الحكومة الانكليزية بشرعية المجلس اراد ايضا ان يؤكد احتفاظ حكومته بحق ادارة شئون الكويت الخارجية ومصالح الاجانب في الكويت وذلك كما قال استنادا على المعاهدات والممارسات الطويلة.
اما المجلس التشريعي فقد صيغ جوابه بغاية الدقة والحكمة مؤكدا حسن نوايا اعضائه وتقديرهم للصداقة الانكليزية وفائدتها ولكنه معترف فقط بحرمة المعاهدات والاتفاقات السابقة المبرمة بين حكام الكويت وممثلي الحكومة البريطانية، اما ما عدى ذلك من الحقوق التي ورد انها تستند على (الممارسات الطويلة) فلم يفرطوا بالاعتراف بها او الاشارة الى ذكرها. وهي حكمة سديدة دلت على حرص المجلسيين وبعد نظرهم بعدم التورط بالاعتراف فيما لا وجه للاعتراف به رغم حرصهم على عدم التعرض لما يسئ الى الانكليز او يريبهم. وفي هذا التدبير الحكيم غاية السداد وحسن التدبير.
عرض "مشروع" اتفاقيات مع الملك عبدالعزيز السعود
والكويت على المجلس
تكررت المحاولات لعقد اتفاق بين نجد والكويت لاعادة (السابلة)
(السابلة تطلق على قوافل التجارة التي كانت تجري على ظهور الجمال بين نجد والكويت وكان لها شأن كبير في ازدهار التجارة لدى الكويتيين) بينهما كما كان عليه الشأن قبل ان يمنع "بن السعود" رعاياه عن مسابلة الكويت عام 1340 هـ. ولذلك لاسباب وشروط كان يشترطها الملك بن السعود في حينه، وقد ارسل الملك مندوبه حمزة غوث الى أمير الكويت ثم انتدب سمو الأمير ولي عهده الشيخ عبدالله السالم الصباح الى الرياض ثم بعد ذلك قدم وفد من المملكة السعودية الى مدينة الكويت من اجل التفاهم على رفع ذلك المنع، ولكن جميع هذه المحاولات اخفقت لتصلب كل من الطرفين على وجهة نظره اذ كان السعوديون يطلبون السماح لمرور بضائعهم عبر الاراضي الكويتية حسب نظام الترانزيت المعمول به عالميا. بينما يرى الكويتيون في هذا قضاء على اهم عوامل تجارتهم التي تستمد حياتها من مشتروات السعوديين في اراضي الكويت.ويقول أمير الكويت انه طلب الى الانكليز بعد ذلك ليفاوضوا الملك عبدالعزيز السعود علهم يصلوا معه الى اتفاق نظرا لصداقته معهم وقد تركت هذه القضية الجوهرية بين يدي الانكليز قرابة خمسة عشر عاما كانوا خلالها يبشرون الكويتيين بالوصول مع بن السعود الى اتفاق لاعادة المسابلة بين نجد والكويت واخيرا ارسل المقيم البريطاني لما كان في الكويت الى مكتب سمو الأمير صورة لثلاث اتفاقيات طلب عرضها جميعا على مجلس الأمة واخد رأيه فيها، الأولى اتفاقية الصداقة وحسن الجوار بين نجد والكويت، والثانية اتفاقية (المسابلة)، والثالثة اتفاقية تسليم المجرمين.
وقد تدارس أعضاء المجلس كل من هذه الاتفاقيات على حدة وبعد ايام ابلغوا سمو الأمير انهم قد درسوا الاتفاقيات الثلاث فاستحسنوها جميعا على وجه التقريب غير انهم لاحظوا انها جميعا كانت مصدرة بهذا النص:
"حكومة المملكة العربية السعودية وحكومة المملكة المتحدة بريطانيا العظمى وشمالي ايرلندا عاملين باسمهم وبالنيابة عن شيخ الكويت"
ومذيلة هكذا:
"عن حكومة المملكة العربية السعودية ............... "
"عن حكومة المملكة المتحدة .............."
فليس لحكومة الكويت او أميرها الا اسما جاء عرضا بحكم الظروف في محتويات الاتفاقيات وانهم يرغبون في جعل التصدير والتذييل باسم أمير حكومة الكويت ولا بأس ان يكون معتمد الحكومة البريطانية في جدة وكيلا عن حكومة الكويت او أميرها وواسطة للاتصال بشأن هذه الاتفاقيات بين الطرفين، وقد عارض الشيخ يوسف بن عيسى احد أعضاء المجلس كافة الأعضاء في ايراد تلك الملاحظة محتجا بأنه يجوز شرعا للوكيل تسجيل العقد وتوقيعه باسمه بدلا من الاصيل وقد فعل الانكليز في رأيه ما هو من حقهم لما وكلهم الأمير بمفاوضة بن السعود نيابة عنه وانه لا حذر مطلقا من ذلك لانه يجوز (شرعا) عزل الوكيل عن الوكالة وقتما شاء الاصيل..
فلما قيل له: "ان العقود السياسية غير العقود الشرعية وان هذه في عرف السياسة تعتبر سابقة يتمسك بها القوي ويحتج بها عند كتابة اي اتفاقيات اخرى -وقد تكون دون علم الاصيل- وانه لا طاقة للضعيف على عزل القوي لا سيما وقد سبقت له الدالة"، لم يأبه الشيخ يوسف لذلك واصر على رأيه قائلا: "انتم تجهلون اصول العقود فتخلقون من تصوراتكم اوهاما لا ضل لها من الحقيقة".
قالوا: "وما الذي يحرجك انت ان ترانا شديدي الحرص والحذر على صيانة حقوقنا وتلافي ما يمكن تلافيه من اخطار محتملة للامة امورنا في الامور السياسية، انه اذا كان الأمر مثلما تذكر من امكانية انهاء وكالة الانكليز فلماذا لا ننهيها منذ الآن وقد انتهى دورهم الموكل لهم في المفاوضات التي تدور منذ خمسة عشر لا نعلم ولا يعلم احد سبب تمديدها كل هذه المدة الطويلة، ولماذا تجادلنا في كتابة صيغة سليمة تصاغ وتوقع باسم ملك السعودية وأمير الكويت؟".
ثم دفعوا الى مكتب الأمير صورا جديدة اجروا عليها بعض التعديلات لتسلم الى المقيم البريطاني الذي اخذها دون ان يعلم احد بعد ذلك ماذا كان تعليقه عليها.
هذه بعض الامثلة من الاحوال والقضايا التي كانت تجري بين المجلس وممثلي الحكومة البريطانية في تلك الظروف الذين كان رجال الكويت يكرسون فيه جهودهم واوقاتهم للنهوض بالكويت وجعله مثالا طيبا تحتذي به الامارات العربية على ساحل الخليج تلك التي اعاقها الجهل والخمول عن مسايرة النهضات العربية الاخرى.
وقد لمس الانكليز ان هذه الحركة الوطنية الصاعدة في الكويت كانت تستهدف بعثا قوميا وروحا عربية وثابة لم يروضوا انفسهم على احتمالها وتقبل عواقبها خاصة وانها تقتدي بالنهضات العربية في البلاد المجاورة. اضف على ذلك الى تبرم القنصل الانكليزي واستيائه من حرص الكويتيين الشديد وعدم فسحهم المجال لتدخله المألوف في شئونهم وقضاياهم الاصلاحية المحلية فأسرها في نفسه حتى واتت الفرصة تجلت الحقيقة الصريحة التي ليس لاحد ان يتشكك فيها وهي ان غالبية قناصل الانكليز في الخليج ومعتمديهم كانوا من الطراز الاستعماري القديم الذي لا يفقه من التعامل الا اذلال الروح الوطنية المحلية والتحكم الصريح في مقاليد الشعوب التي تقع تحت نفوذهم حتى ولو لم يكن لهم من ذلك اي فائدة او جدوى.
فاذا اضفنا الى كل ذلك ان قادة الرأي في الامارات العربية المجاورة كدبي والبحرين بل وحتى بعض من في امارات الهند بدأوا يفتحون عيونهم على ما يجري في الكويت وتستهويهم حركتها الوطنية النشيطة فبدأوا يلمون شعثهم ويرصون صفوفهم للمطالبة بانشاء مجالس نيابية اسوة لما جرى في الكويت وغيرها في امارات الهند ادركنا ان ممثلي الانكليز وقد هالتهم هذه العدوى الوطنية السريعة التي اخذت تمتد خارج الكويت بدأوا يغيرون افكارهم ويبدلون خططهم نحو رجال الكويت الوطنيين وينظرون اليهم نظرة الحذر والتربص، وبالتالي اخذوا يتوددون -مع وسائل وهدايا الحاشية- الى الأمير بل ويثيرون في نفسه عوامل الاستفزاز والتحدي.
وقد صارح القنصل ذات يوم رجال المجلس الذين يزورونه الى ان يحسن بهم جعل السلاح المنقول الى قصر نايف تحت اشراف وحوزة رجل مختار يعينه سمو الأمير، فكانت هذه اول بادرة من بوادر ايقاظ الفتنة والتحول لهدم المجلس من جانب الانكليز.
وفي جلسة ثانية عندما كان في زيارته سليمان العدساني وعبدالله الصقر يتحدثان اليه في موضوع قانون غرفة التجارة وكيف ان سمو الأمير يؤجل توقيع القانون يوما بعد آخر دون ابداء اية ملاحظة مما يعرقل حركة الاصلاح ويشل اعمالهم، رد عليهما قائلا: "الحل الوحيد في نظري ان تبادروا الى طلب مستشار انكليزي يوازن بينكم وبين الأمير"، فاستغرب العضوان من هذا الرأي المفاجئ وقال سليمانالعدساني: "هذه مسألة لم نفوض في الكلام فيها ولا يفوت سعادة القنصل ان الكويتيين جميعا مسلمون متعصبون ويرون اي كويتي يتقدم بطلب جلب رجل ليس من ديانتهم ليكون مستشارا لهم في امورهم انما يعتبر خارجا عن الدين وليس منهم".
وقال عبدالله الصقر: "انكم يا سعادة القنصل تمثلون هنا المستشار المطلوب فان كافة الشئون الجوهرية نتشاور مع سعادتكم فيها".
وقد اراد هذان العضوان من هذا الكلام التخلص بلطف من موضوع المستشار الذي تبين ان القنصل كان يبيته منذ حين، غير ان القنصل وقد ادرك حقيقة ذلك رد عليهما قائلا: "يظهر انكما لا ترغبان بالمستشار هذه مسألة تعود لكم انتم أعضاء المجلس وانا اقترحت جلب المستشار بصورة شخصية لهذا ارجو عدم تسرب شئ من هذا الحديث حتى الى زملائكم لانه مجرد اقتراح شخصي من عندي".
وقد حرص العضوان المذكوران على كتم هذا الحديث عن كل احد في بادئ الأمر كيلا يتسرب الوهن الى صفوف أعضاء المجلس ولكن عندما تطورت الامور وظهرت النتيجة سريعا لهذا الأمر بالموقف الذي وقفه من في قصر دسمان بعد زيارة القنصل للأمير ابان المفاوضات الجارية بين المجلس والأمير في قضية خالد الزيد الخالد ادرك العضوان بعد اشتداد الازمة وتصلب من في القصر اي سند قوي كانوا سيستندون اليه وكشفا لزملائهما حقيقة ما حصل من القنصل وان هذا التصلب نتيجة لذلك الحديث فلا فائدة ترجى اذا من المقاومة والتشدد ما دام الانكليز هم المحرضين والدافعين الى ذلك.
هذه اذا حقيقة الوقائع التي جرت في الكويت فأدت الى سقوط المجلس التشريعي الأول بقيت خافية على كثير من الناس، حذر الانكليز وتخوفهم وتوجسهم من رجال الكويت المتشددين المتصلبين ثم رفضهم وجود مستشار انكليزي يتحكم في الكويتيين ويذلهم كما هو جار في البحرين، وليس كما يتصور بعضهم ان سقوط المجلس كان نتيجة لتلك الامور الظاهرية الصغيرة كحادث خالد الزيد الخالد او ما سبق او ما تلى ذلك من مشاغبات عادية هزيلة لم تكن لتغير من الأمر شيئا وانما جاءت هذه لتكون بعض الذرائع التي استغلها رجال الاستعمار لنحر جهود شعب صغير وادع ينشد الاصلاح والتقدم.
"حرر هذه الكلمات في مدينة الزبير 30 شعبان 1359 1 سبتمبر 1940"
كيف سقط المجلس التشريعي الأول
الاسباب المباشرة والاسباب الاصلية لسقوط المجلس
كان ضمن الامور التي يشكو منها الكويتيون منها هو عدم وجود غرفة تجارة في الكويت تشرف على احوال التجارة وتقنن لها الانظمة والاصول التي تضبط معاملاتها وتحد من كثرة الخلافات التي تنشب بين التجار، وقد حاول الكويتيون قبل المجلس تلافي هذا النقص وذلك بتقنين انظمة تجارية او تشكيل غرفة يناط بها امثال تلك الامور، بيد انه لم يكن بين المسؤولين حينذاك من يعني بمثل هذه الامور الضرورية فكان نصيب جميع تلك المحاولات الاهمال والفشل المحقق، وعندما استقر المجلس التشريعي وشرع في الاصلاحات الكبرى توجهت اليه تلك الرغبة الملحة من التجار انفسهم، فسن اعضائه مشروع قانون بتأسيس غرفة تجارية ينتخب التجار من بينهم أعضاءها وفوض القانون أعضاء الغرفة المنتخبين بسن الاصول والقواعد التي تضبط التجارة ومعاملاتها كما منحهم حق تقرير الاحكام التجارية وتقديم المقترحات التي تنهض بتجارة الكويت وتقومها.
وقد رفع المجلس مشروع القانون المذكور الى سمو الأمير لتوقيعه تبعا للاصول النيابية غير ان الأمير بتحريض من الناقمين تلكأ عن توقيعه بحجة درسه ولما لم يكن هنالك ما يستحق الدرس في قانون تأسيس الغرفة التجارية اذ كان الأمر فيه مقتصرا فقط على قيام غرفة التجارة وتحديد صلاحية اعضائها، دل ذلك على وجود رغبة مبيتة لعرقلة القوانين وقد تجلى هذا الأمر جليا عندما طاف بعد ذلك التاجر عبدالمحسن الناصر الخرافي احد الناقمين المعارضين للمجلس بسبب حل شركة النقل والتنزيل التي كان هو احد اصحابها الاربعة على التجار وبيده عريضة يستمضيها منهم مرفوعة الى سمو الأمير يتوسلون فيها عدم قبول التوقيع على اي قانون يصدره المجلس ما لم يسن (الدستور).
وبديهي ان هؤلاء المعارضين لم يتجاسروا على تحدي اعمال المجلس بهذه الصورة العلنية لو لم يكن لهم من هوى القادرين سند او نصير.. ورغم ان كافة التجار البارزين رفضوا التوقيع على تلك العريضة الا ان بعض اركان المجلس استصوبوا مقابلة الأمير والتحدث معه لاقناع سموه بتوقيف هذه الحركة وشلها في البداية فذهبوا اليه في مكتبه الرسمي ولما حادثوه في ذلك اقسم كعادته المألوفة.. انه يجهل اي من تلك العريضة وارسل في الحال كاتبه الخاص الى عبدالمحسن الخرافي يأمره بالتوقف في بالتوقف في أمر العريضة، ولما سألوه بشأن التوقيع على قانون تشكيل الغرفة قال انه لم يتفرغ بعد على درس القانون وانه سيجيبهم الى ذلك السبت المقبل المصادف 25 شوال عام 1357.
غير انه حدث يوم الجمعة السابق لذلك اليوم ان عاد الى المدينة صالح العثمان الراشد عضو المجلس التشريعي والمشرف على قوة البادية من احدى جولاته في البادية وهو يتأبط كعادته الدائمة مسدسه بحكم الوظيفة التي يشغلها فذهب الى زيارة صديقه عبدالمحسن الخرافي في مقره التجاري بالسوق وكان كل منهما صديق للآخر وينتميان في الاساس الى قرية الزلفي من قرى نجد وبينهما صِلاة وثقى فلما لم يجده في مقره ووجد هناك كل من خالد الزيد ويوسف العدساني وهما من الناقمين كما اسلفنا سألهما عن عبدالمحسن وأين هو فرد عليه خالد الزيد بلهجة استفزازية قائلا:
"ماذا تريد منه؟"، قال صالح: "اريده في شئ"، فرد خالد بحدة: "ماذا تريد منه؟" فلما رأى صالح هذا التمنع العناد ركبته طبيعته المداعبة التي كثيرا ما ألفوها منه وقال: "اريد اقبض عليه".فاهتبلها خالد الزيد فرصة العمر ونهض متكلفا الحماسة والصياح على ملأ من الناس: "اقبض علينا كلنا نحن جميعا شركاء". فانكر صالح العثمان وقد ادرك الغاية من لهجة خالد الاستفزازية وصاح به بلهجته النجدية الخالصة: "يا رجًّال تعوذ من ابليس انا مالي معاك كلام جيت انشد عن خوي لي.."
ولكن اين لخالد من الاقتناع وهو يحاول تهييج الناس واثارتهم فخرج على عتبة الباب وجعل يصرخ عاليا: "اقبض علينا كلنا -ثم اندفع وسط السوق وهو يهوش- يا جماعة ان صالح العثمان يهددنا بالمسدسات هذه حالة لا نصبر عليها، اما نحن او انتم يا أعضاء المجلس"، وخرج على اثره يوسف العدساني يقلده ويقتفي طريقته.
فتجمهر بطبيعة الحال جمع غفير من الناس لاستطلاع الحقيقة ولما تبين لهم الأمر على وجهه الصحيح وعرفوا غاية خالد الزيد من وراء هذا التهريج الذي يحاول احداث الفتنة وخلق الاضطرابات اوشك بعضهم على الفتك به ولكنه لاذ بدكان اقربائه آل الخالد وجعل يصرخ من هناك، وقد تدارك العقلاء من انصار المجلس الشباب المتحمس فامسكوهم عن خالد وهدأوا نفوسهم راجين منهم كبت عواطفهم كيلا يؤول الأمر الى فتن بين العائلات الكويتية فتردى الحال وتسوء العقبى، ومسكت انا بدوري ابن عمي يوسف العدساني وسحبته جانبا اتوسل اليه ان يكف عن امثال هذه الصيحات التي لا تليق بمثله اذ كان له من ماضيه الطيب ما ليس لسواه من المهرجين والنفعيين، فاخجله هذا الكلام وانسحب.
وقد نشبت معركة على اثر ذلك بين الفتى المتحمس عبدالحميد نجل الشيخ يوسف بن عيسى المناصر للمجلس وبين زيد نجل خالد الزيد الذي كان يدافع عن ابيه ولكن العقلاء فرقوا بينهم سريعا كيلا تتوسع الفتنة التي يوشك ضرامها ان يندلع وقد جلبت قوة من الشرطة للمحافظة على الامن ثم سحبت سريعا.
اما أعضاء المجلس فقد تنادوا الى عقد جلسة استدعوا اليها رئيس المجلس للمداولة فيما حصل وقرروا هذه المرة وجوب وضع حد لمثل هذه الاستفزازات والتهريجات التي يلجأ اليها فريق من الحاقدين استخفافا منهم بشأن المجلس او اطمئنانا الى سلمه واعتداله، وقد رأوا جميعا ان الحادث الاخير كان نتيجة منتظرة للتساهل الكلي والتسامح العريض في غير محله، وقال العضو حمد الداود المرزوق: "يا جماعة الحقيقة كما يقول المثل (المقام اللي ما يشور ما ينزار) نحن منذ جلسنا على هذه الكراسي ما عاقبنا احد من المشاغبين او الهدامين فلا عجب ان يطمع فينا كل من تسول له نفسه بث الفتنة واثارة الدسائس.. ان كنتم حريصين على حفظ كيانكم والتفرغ الى الاصلاحات الكثيرة فلا تغفلوا في اموركم الحزم والعزم اللائقين يا اولياء الامور..".
وقال عضو آخر: "نعم لقد اطمعنا هؤلاء المشاغبين بحلمنا وتسامحنا فاساءوا فهم تقديرنا للحرية الفكرية التي نحترمها. وتجاوزا الى التحريض والدسائس والمفتريات، ان خالد الزيد كان صادقا حينما عبر عن قصده الحقيقي بقوله (اما نحن او انتم يا أعضاء المجلس). وهذا هو الغرض الحقيقي من مشاغبات خالد الزيد.. التبوء على الكراسي التي خسرها في الانتخابات الشرعية فلجأ الى الهدم والتخريب، ليكن لهذا الرجل الباغي ما يريد فاما نحن او هو".
وطرح في المجلس رأيين للترجيح بينهما، اما القبض على خالد الزيد ومحاكمته بتهمة التحريض على معاداة
الحكومة والحجج متوفرة والادلة قاطعة، او ابعاده خارج الكويت لمدة شهرين تسلم البلاد فيهما من دسائسه ومشاغباته وليكون عبرة لسواه من الهدامين.
ولقد اجمع الجميع على ترجيح الرأي الاخير اذ لم يكن ثمة عند المجلسيين قصد شخصي للانتقام من الرجل، وانما كانت رغبة الجميع
على توفر الطمأنينة والهدوء للانصراف الى اعمال الاصلاح والانشاءات الكثيرة التي تفتقر اليها البلاد.فوقع رئيس المجلس أمرا تحريريا الى مدير الشرطة بالقبض على خالد الزيد وابعاده الى قرية الجهراء مؤقتا ريثما ينقل الى مكان آخر، فذهب مدير الشرطة وعاد بعد برهة اذ لم يجد خالدا في دكانه، ولكن حضر الى المجلس (مرجان) تابع سمو الأمير يدعو سعادة رئيس المجلس الى سمو الأمير في قصره دسمان، فاوقف سعادته الجلسة ريثما يعود، ثم عاد بعد نصف ساعة وهو يقول: "ان خالد الزيد بقصر الأمير دسمان وان سموه لما بلغه قرار المجلس في ابعاد خالد الزيد رجى مني ان اطلب منكم اعادة النظر في ذلك "، ولكن المجلسيين اصروا على ابعاد خالد وقالوا: "ان هي الا مؤامرة حيكت لهدم المجلس وقد سبق لنا ان نبهنا الرئيس لينصح خالدالزيد ورفاقه بالكف عن هذه المعاكسات ولكنهم تمادوا واستفحلوا في غيهم فيجب ان يكون لكي شئ حدا".
وعاد الرئيس الى الأمير يبلغه اصرار المجلس على ابعاد خالد الزيد غير ان الأمير قال: "ان خالدا سيبقى محجوزا لديه بالقصر حتى يتفق على حل آخر..".
وعاد الرئيس الى المجلس لابلاغهم رأي الأمير فوافق أعضاء المجلس على ذلك بشرط ان لا يبرح خالد الزيد مقره في قصر الأمير دون رضاهم، وعاد الرئيس ينقل الى الأمير رأي المجلسيين هذا.
وظن ان القضية قد انتهت عند هذا الحد ولكن حدث خلال هذه المراجعات ان تآلب المعارضون المتصلون بأفراد العائلة من كل فج كل على من يقربه يحرضونهم ضد المجلسيين ويصورون لهم اعمالهم بصورة التحدي لنفوذ العائلة الحاكمة ويهيجونهم بالاقاويل والمفتريات التي يزجونها اليهم باساليب ووسائل شتى.
وجاء بعد ذلك القنصل البريطاني ليعرض على سمو الأمير مساعدته فيما يريد من قوى انكلترا بحرا او جوا.. فتكاملت الصورة واشتدت عناصر الاثارة والتشجيع وحان الاوان لتبريد الغليل من هؤلاء المجلسيين المكابرين.. وعاد الرئيس وهو يحمل الى أعضاء المجلس طلب المجتمعين في قصر دسمان بتسليم جميع السلاح الذي في قصر نايف، وادرك المجلسيون ان الامور قد بلغت غايتها وان هذا الطلب المفاجئ هو نهاية المطاف في تقليص نفوذ المجلس ثم حله بالقوة الجبرية، فأبوا قبول رد السلاح وبدأ الجانبان يستعدان كل من جانبه لتحقيق وجهة نظره.
المجلسيون في قصر نايف الذي كان فيه السلاح لحماية السلاح والآخرون في قصر دسمان يخططون للهجوم.
فأما من في قصر دسمان فقد تزعم الجمع الشيخ علي الخليفة الصباح فأرسل على كافة الاتباع والبدو الرشايدة ورجال القرى المجاورة وجلهم من البدو المتحضرين وسلحهم بما كانوا يملكونه في دسمان وغيره من السلاح وشكلوا هناك (عرضة) رقص حرب كبيرة على الطريقة البدوية المعروفة للحماس والارهاب واما من في المجلس فأرسلوا الى رئيس قوة نايف ليهيئ أمره ويكون على حذر من هجوم مباغت كما بعثوا الى انصارهم ومؤيديهم من جمهور الكويت ليوضحوا لهم حقيقة المؤامرة ويتداولوا معهم في وجوه الرأي.
فطالب الشباب اصدار الأمر بتسليحهم حالا وارسالهم الى قصر دسمان لملاقاة القوة هناك، غير ان أعضاء المجلس طلبوا من الجميع الحضور غدا الى ساحة الصفاة الواسعة التي تقع في مداخل المدينة برا ورجوا من العموم الامتناع غدا من كافة الاعمال التجارية وغيرها بمثابة احتجاج صارخ من الأمة حتى تضمن المحافظة على حقوقها، وقد حضر جمهور غفير من الكوينتيين الى الساحة المذكورة في صباح السبت الخامس والعشرين من شهر شوال 1357 هجري، فخطب فيهم نفر من الشباب وتكلم كل من السيد علي السيد سليمان ومشعان الخضير الخالد وعبدالله الحمد الصقر من أعضاء المجلس موضحين حقيقة التآمر على حقوق الأمة للعودة بها الى عهود الرجعية واستبداد رجال الحاشية وتحكمهم الكيفي، وناشدوا الجميع الكف عن كافة المعاملات حتى تضمن للامة حقوقها.
وقد تحركت تلك الجموع الغفيرة في شكل تظاهرة كبرى تضم الشباب والشيوخ والتجار والعمال والاعيان كلهم ينادون بحياة الأمة وتحقيق مطاليبها العادلة متجهين الى الساحل مخترقين السوق العام في اتجاه قصر الأمير الساحلي ثم مالوا شمالا الى دار المجلس التشريعي حيث كان هناك بعض من أعضاء المجلس يتداولون بينهم فطلب البعض توزيع السلاح عليهم في الحال ولكن من كان هناك شكروهم ورجوهم التفرق مؤقتا لانهم قالوا انهم يأملون حل القضايا بطريق المفاوضات التي كانت جارية اذ ذاك بواسطة المتوسطين، فصاح المتظاهرون طالبين الاصرار على ابعاد خالد الزيد قبل كل شئ وعدم تسليم السلاح ثم تفرقوا الا شباب (كتلة الشباب الوطني) وبعض المتحمسين من اصدقاء أعضاء المجلس فقد اصروا على البقاء حول المجلس او الذهاب الى قصر نايف فسمح لهم بالذهاب مع فريق من أعضاء المجلس الى قصر نايف حيث سلحوا جميعا هناك.
وكان فريق آخر من أعضاء المجلس مجتمعين في دار (آل الصقر) ثم جاؤوا الى المجلس التشريعي ومعهم كل من سعادة رئيس المجلس والشيخ عبدالله الجابر الصباح والشيخ يوسف بن عيسى والحاج أحمد الحميضي وحمد المرزوق البدر والشيخ أحمد بن خميس يسعى للسلام ويقنعون المجلسيين بالتساهل في اجابة طلب من في قصر دسمان لرد السلاح حسما للفتن وحقنا للدماء، غير ان المجلسيين قالوا ان هذا الطلب الغريب اي ارجاع السلاح ليس له ما يفسره سوى العزم الاكيد على حل المجلس بالقوة الجبرية لتجريد الأمة من كافة حقوقها والعودة بها الى العهود الكيفية. وهنا وجد المتوسطون ان لا فائدة ترجى من ترددهم وحدهم بين المجلسيين وجماعة قصر دسمان لذلك اقترحوا تشكيل وفدين احدهما من المجلس والآخر ممن في قصر دسمان يجتمعان معا ويتفاوضان وحدهما بصورة ودية علهما يصلان الى حل مرضي يقي الجميع عاقبة التطاحن وسفك الدماء فإن اختلفا في الأمر يصار الى لجنة تحكيم من الوسطاء القائمين بالوساطة لتحكم في الأمر على ان ينزل الطرفين عند حكمها نهائيا فأرتضى الجانبان هذا الرأي واجتمع الوفدان في
(..).وهناك طلب وفد دسمان وكان يرأسه الشيخ فهد السالم الصباح الذي كان ذلك اليوم اكثر المتحمسين من أفراد العائلة الحاكمة ضد المجلسيين
(كان الشيخ فهد السالم الصباح من اول المتحمسين والمناصرين لقيام المجلس اذ جاء الى ديوان الشيخ يوسف بن عيسى مرسلا من سمو اخيه المرحوم عبدالله السالم الصباح يطلب الى الشيخ يوسف ان ينقل للجماعة أي الجماعة التي تقدمت الى سمو الأمير الشيخ أحمد الجابر الصباح موافقته وتأييده لهم في مطالبتهم بتأسيس المجلس التشريعي، وكان يأمل بل لقد طلب وألح بعد قيام المجلس ان يعينه المجلسيون الممثل الشخصي لحاكم الكويت بدلا من عبدالله الملا صالح غير ان المجلسيين لم يشاؤوا ازعاج سمو الأمير الذي كان لا يرتاح الى فهد السالم نظرا لان الاخير كان مندفعا وغير مبال بأحد، فحقد فهد على المجلسيين لهذا السبب وبيتها لهم الى اليوم المناسب وهذا هو اليوم المناسب) طلب تسليم السلاح فورا وانه لا يقبل الدخول في اية مفاوضة قبل تنفيذ هذا الرأي، فأنكر ذلك وفد المجلس وقال ان هذا املاء واوامر وليس مفاوضة يرجى فيها التفاهم. فأصر الوفد الأول على رأيه ورفع الخلاف الى اللجنة المحكمة التي يرأسها الشيخ يوسف بن عيسى فقضت برأي وفد دسمان ولكنها عينت الشيخ عبدالله السالم رئيسا للجنة التي تشرف على السلاح وذهبت لجنة التحكيم مع وفد دسمان الى قصر دسمان حيث ابلغوا سمو الأمير قرار لجنة التحكيم فأظهر سموه موافقته على رئاسة عبدالله السالم للجنة التي تشرف على السلاح ثم رجعت لجنة التحكيم مع سعادة الشيخ عبدالله السالم الى أعضاء المجلس في ديوان آل الصقر للتبليغ بموافقة الأمير وطلبت اليهم السماح للجنة التحكيم السماح بالذهاب مع فريق من أعضاء المجلس الى قصر نايف وتسريح الشباب ومناصري المجلس وأفراد الشرطة ورئيس قوة نايف وان تبقى تلك الليلة وحدها بالقصر قصر نايف على ان تسلم مفاتيح مخازن السلاح لها وتبقى القوة القديمة وهي مجموعة مؤلفة من ستين فردا كلهم متحدرين من نجد ومشهورين بالشجاعة وحمل السلاح تحت أمرة لجنة التحكيم فقبل المجلسيون ذلك ولكنهم اظهروا عدم ارتياحهم من ترك قوة دسمان حرة بدون قيد كما طالبوا بالضمانات الكافية لعدم حل المجلس مباشرة قبل ان يصار الى تفاهم بين الطرفين. فرد الشيخ عبدالله السالم قائلا: "انه يتعهد بحجز قوة دسمان وبأن لا تستعمل للضغط على المجلسيين مطلقا"، وقال الشيخ يوسف بن عيسى: "انه يتعهد بألا يحل المجلس اذ ليست هناك اي فكرة من هذا القبيل وانه سيبقى وحده مع لجنة التحكيم في قصر نايف للمحافظة على السلاح الذي فيه مع أفراد قوة البادية كيلا يدنو احد من القصر".وعند هذا انتحى أعضاء المجلس وحدهم ناحية للتداول في أمر هذه الوعود، فادركوا انها وعود خاوية ولكنهم عرفوا من المتصلين بالجانب الآخر ان الحركة مبررة من ايد اجنبية.. فلا ترجى فائدة من المكابرة التي قد تؤدي بالكويتيين جميعا الى الرزوح تحت نير الاجنبي المتربص لتركيز نفوذه الفعلي في الكويت كما حدث ذلك في مسقط والبحرين وغيرهما من امارات الساحل العربي، الا انهم وجدوا انهم لا يملكون أو لا يسعهم سوى التظاهر بالوثوق في الوعود المقطوعة لا سيما وانها تصدر من اناس لا يملكون القدرة على تنفيذها. وهكذا اظهر جميع المجلسيون الموافقة وخرج عضوان من أعضاء المجلس الى قصر نايف بصحبة الشيخ عبدالله السالم وأعضاء اللجنة المحكمة حيث تكلما الى من كان في قصر نايف من الشباب وغيرهم واخبراهم فيما انتهى اليه الاتفاق مع فريق دسمان فعارض بعض الشباب في نزع السلاح حذرا من ان تكون في الأمر خدعة.. فقال لهم السيد علي السيد سليمان: "لقد اقسم لنا هذا الرجل -واشار الى يوسف بن عيسى- ان ليس في الأمر خدعة فيجب ان نثق جميعا بما اقسموا عليه..". فالقى الشباب وباقي المتطوعين عندئذ اسلحتهم كما خرج أفراد الشرطة النظامية اللذين انضموا هم ورئيسهم الى قصر نايف ورجعوا بأمر الشيخ عبدالله السالم الى دائرة الشرطة للمحافظة على الامن كالمعتاد، وكانوا جميعا من عائلات الكويت المعروفين وقد خرج صالح العثمان الراشد رئيس قوة نايف مع زميليه عضوي المجلس تاركا أفراد فرقته فرقة البادية تحت أمرة لجنة التحكيم كما تم عليه الاتفاق ونام أعضاء لجنة التحكيم تلك الليلة في قصر نايف، اما سعادة الشيخ عبدالله السالم الصباح فغادر قصر نايف الى قصر دسمان لتبليغ الأمير بكلما حصل وما ان ادرك ذلك الشيخ علي الخليفة الصباح حتى خرج بعد نصف ساعة فقط مع رجاله المسلحين من قصر دسمان وجاء الى دائرة الشرطة النظامية وأمر أفرادها بنزع اسلحتهم والذهاب الى بيوتهم فلم يمانع رئيسهم بالنظر الى وقوفه على مجرى الامور، ثم خرجت قوة اخرى من دسمان مؤلفة من البدو الرشايدة والاتباع تطوف بالشوارع مهوسة "ان الحكم لله ثم للصباح" كأنما كان الحكم قبل ذلك لغير آل الصباح وذلك بالنظر لما صوره للعائلة الحاكمة اصحاب الاحقاد الدفينة من المغرضين والنفعيين ناسين أو متناسين ان جميع المصالح الرئيسية كان يرأسها في عهد المجلس اكابر أفراد عائلة الصباح فان صاحب الأمر الأول وهو سمو الأمير لا تصدر الاوأمر الجوهرية ولا القوانين الا بعد رضائه التام وتوقيعها بختمه تماما كما هو الحال في البلدان النيابية الاخرى. اما رئاسة المجلس التشريعي فإلى اكبرهم سنا ومقاما بعد سمو الأمير وهو سعادة الشيخ عبدالله السالم الصباح ولي العهد، كما كان يرأس جميع المحاكم ومجلسي البلدية والمعارف الشيخ عبدالله الجابر الصباح فأي أمر اوضح من هذا على تمسك المجلسيين بحكامهم وأفراد العائلة الحاكمة التي لم يسيئوا طوال مدة عملهم في المجلس الى اي فرد من أفرادها ان لم يكونوا قد احسنوا الى البعض منهم من الذين كانوا يضطرون الى التذلل الى الملا صالح الملا عله ينصفهم او يتوسط لهم حتى في اسباب معيشتهم، ان هي الا فتنة الذين لم يتقوا الله في انفسهم وفي اوطانهم (فحاقهم الله عذاب السوء والجور بما كانوا يكسبون).
وهكذا بعد ساعة او نصف ساعة خفر بالعهد وتوالى نكث العهود التي ما كان للمجلسيين ان يركنوا اليها لولا ان هنالك من الامور ما يضطر العقلاء الى ركوبها حذرا مما هو شر منها، وتربع الشيخ علي الخليفة على مقاعد الشرطة وحوله رجاله المسلحين ملثما بكوفيته كأنما كان خارجا من ساحة معركة كلل جبينه فيها بتاج النصر ترد اليه وفود المتزلفين والمنافقين يقبلون رأسه أو مارون انفه يهنؤونه بالنصر والفتح المبين
(كانت جميع المواقع الحربية الواقعية التي اشترك فيها الشيخ على الخليفة لا تدل الا على خور ووهن في شجاعته وصحة عزيمته).اما أعضاء المجلس وانصارهم فقد اجتمعوا في منزل آل الصقر الذي كان آنذاك بمثابة (بيت الأمة) وجاء سعاتهم يحملون اليهم انباء هذه المرائي.. ثم جاءهم رئيس شرطة الجمارك الشاب الشجاع المرحوم محمد عبدالعزيز القطامي
(كان المرحوم عبدالعزيز القطامي يرأس شرطة الجمارك) يبلغهم ان قوة من الفداوية على رأسها احد من أفراد العائلة حاولوا اقتحام الدائرة التي هو فيها ولكني منعتهم، فغادروه وربما عادوا بأمر جديد فماذا يكون منهم؟فشكره أعضاء المجلس على غيرته الوطنية وأمروه ان يخضع للأمر الواقع وان يمتثل لما يأمره به الحاكم دون ممانعة.
ثم قرر أعضاء المجلس الحضور غدا صباحا الى قاعة المجلس التشريعي كالعادة المتبعة دون ان يتخلف احد منهم، وفيما كانوا مجتمعين صباح يوم الاحد المصادف السادس والعشرين من شهر شوال 1357 هـ. حضر اليهم الشيخ يوسف بن عيسى وباقي رفاقه من أعضاء لجنة التحكيم اللذين باتوا البارحة في قصر نايف للمحافظة عليه. فلما ناقشه المجلسيون وسألوه عن رأيه في خرق العهود لا سيما وقد اقتحم الشيخ علي الخليفة قصر نايف وسرح القوة الموجودة فيه ثم عبث بجميع محتوياته اجاب الشيخ يوسف انه لم يحصل أي خلل بالعهود فالسلاح الذي اوتمن عليه ما زالت مفاتيح مخازنه بيده
–واظهرها بهزها يريهم اياها- كأنما كان أمر الاستيلاء على السلاح مقصورا على الاحتفاظ بتلك المفاتيح التي يردد الشيخ يوسف انها ما برحت في جيبه (اطلق احد المنكتين من أعضاء المجلس على حركة الشيخ يوسف والتلويح لهم بوجود المفاتيح بيده قائلا : " سرقوا الصندوق يا محمد.. لكن مفتاحو معايا؟.."). اما هجوم الشيخ على الخليفة على دائرة الشرطة وتسريح أفرادها واحتلاله اياها فقد برره الشيخ يوسف بقوله: "انه انما كان ذلك بقصد المحافظة على الامن داخل المدينة".. فكأنما لا تكون المحافظة على الامن الا بتسريح أفراد قوة الامن.فلما ثاروا في وجهه مستائين من هذه التبريرات والتحيزات منه لفريق دسمان الى ذلك الحد وسألوه كيف يعلل طوفان قوى دسمان بالمدينة واستيلائها على دائرة حرس الجمارك وهي القوة التي قيل لهم انها ستحجز في محلها فلا تبرح دسمان.. ضحك فيهم ساخرا وزاد بقوله: "انه قدم الآن من سمو الأمير وانه اي الأمير سأل منه قائلا: "الديكم كلام او اي شئ تقولونه"، واني اجبت الأمير: "انا ليس عندي شئ اني لست منهم بل اني من المتوسطين"، فان كان عندكم شئ تودون ان انقله الى الأمير فقولوه لي الآن"..
وهكذا تخلى الشيخ يوسف في احرج الاوقات عن صفته التمثيلية للامة وهو الذي كان يتوقع الناس ان يكون اكثر الأعضاء حماسا واصلبهم عودا في الدفاع عن حقوق مواطنيه لا سيما وقد كان في طليعة الحائزين على اكثرية اصوات الناخبين للمجلس النيابي بل ونائب الرئيس فيه.. فساء هذا الكلام الغريب والاسلوب العجيب أعضاء المجلس وصاحوا به: "كيف تريد منا المفاوضة بعد ان اقنعتنا على التجرد من سلاحنا وسلطت خصومنا علينا وماذا بقى لنا ان نقول الآن؟ ليس عندنا ما نقوله سوى اننا باقون هنا بثقة ناخبينا فلينزلنا من شاء كيف شاء بالقوة التي يملكها وليس عندنا ما نضيفه.."
وخرج الشيخ يوسف مستخفا بينما مرت تلك اللحظة قوى الشيخ علي الخليفة المسلحة من تحت المجلس تجوب شوارع المدينة بالسيارات العديدة هاتفة بسقوط المجلس قاذفة السباب على المجلسيين، اما رئيس المجلس فقد امتنع عن الحضور خجلا من رفاقه أعضاء المجلس لما حدث ولو صنع الشيخ يوسف مثلما صنع رئيس المجلس النبيل، لكفى المجلسيين شر تلك السخرية المرة ولانتحلوا له من الاعذار مثلما انتحلوا للرئيس الطيب، ولكنه جاء اليهم بروح كلها المغالطة والسخرية والتنكر فسامحه الله
(الشيخ يوسف بن عيسى رجل خير وطيبة لا جدال في ذلك الا انه بطبيعة تفكيره الخاص كان كثيرا ما يختلف واركان المجلسيين في الوسائل والاساليب، من ذلك ان المجلسيين كانوا متزمتين في الحفاظ على كافة الحقوق غير متسامحين بينما كان الشيخ يوسف يرى ويصرح ان الحقوق التي نالها الكويتيين في قيام المجلس التشريعي ما هي الا منة وتفضلا من الانكليز او من الحكام فلا سبيل اذا الى مناقشة هؤلاء متى رغبوا عن ذلك . ومن هنا نشأ الخلاف بين الشيخ يوسف ورفاقه اركان المجلس، وفي ذلك تفسير لمواقف الشيخ يوسف الاخيرة من المجلسيين عندما اشتدت بهم الازمات . وفي رأيي ان الشيخ يوسف لعب في هذه الازمة دورا خطيرا وطيبا يؤهله اليه مقامه عند الكويتيين والحكام في تجنيب الكويت شر الاصطدام ولكنه عرض نفسه للملام بالتعليلات والتبريرات الضعيفة التي ساقها، ولو انه تحدث اليهم بالود والصراحة التامة لشكروه وقدروا مسعاه). وبعد نصف ساعة وصل أحمد بن خميس احد أعضاء لجنة الوساطة وهو يحمل كتابا من الأمير هذا نصه:لحضرة رئيس المجلس التشريعي الاخ عبدالله السالم المحترم
بعد التحية
اعتمدوا بان قد أمرنا بحل المجلس التشريعي الحالي ولا نزال معتمدين تشكيل مجلس يقوم مقام المجلس المذكور فاعتمدوا ذلك ودمتم
حاكم الكويت
أحمد الجابــر الصباح
الكويت تحرير 25 شعبان 1357
وقد وضح من تاريخ كتاب حل المجلس ان نية الحل كانت مبيته بينما المفاوضات تدور والوعود تقطع للمجلسيين بعدم حل او التفكير بحل المجلس.
وبمثل هذا التدبير قضي على حياة ذلك المجلس العتيد الذي سيبقى تاريخه المجيد غرة في تاريخ الكويت لما نهض به من اصلاحات ومشاريع كبرى هيهات ان ينسى اثرها المتصفون لا سيما في وقت كان الناس فيه لا يفقهون من الحياة والنظم البرلمانية ما يفهمونه منها اليوم.
اما الاسباب الاصلية التي تسببت في سقوط المجلس وربما خفي أمرها على الكويتيين فهي قبل وبعد كل شئ تحول وجهة النظر الانكليزية لتخوف الانكليز من الوطنيين الكويتيين على النفوذ والمصالح البريطانية فضلا عن الذعر الذي اصابهم بعد ما شاهدوه من سرعة انتقال العدوى الى جميع شعوب الامارات العربية والهندية الخاضعة لنفوذهم كما اسلفنا.
صورة سريعة لرجال مجلس الأمة التشريعي الأول
ضم المجلس التشريعي الأول طائفة من ابرز شخصيات الكويت واكفأها على العمل المنتج الصحيح فقد تسنى لهم في امد وجيز الظفر بكافة الحقوق الشعبية والنهوض باكبر الاعمال والمشاريع النافعة التي يتوق اليها الكويتيون وتطمح اليها انظارهم، وقد اجتمع في المجلس الى جانب الرجال الذين سبق لهم التعاون والتآلف في الحركات الاصلاحية السابقة في مجالس البلدية وغيرها اخوان لهم آخرون من ابرز رجالات الكويت واكثرهم غيرة لخير الوطن ونفعه.
الشيخ يوسف بن عيسى
وكان الشيخ يوسف بن عيسى زعيم القناعات من اشهر رجالات المجلس وابرزهم لدى الرأي العام نظرا لمكانته الدينية الطيبة ومواقفه الاصلاحية التي لا تنكر وهو شيخ دين درس في الاحساء وقضى الشطر الاكبر من حياته في خدمة معارف الكويت خدمة نزيهة متصلة لوجه الله والدين كما ساهم في اكثر الشئون الاصلاحية والخيرية التي قامت في الكويت وكان صاحب الفضل الكبير في رعاية المشاريع النافعة والاشراف عليها، بيد انه وللاسف زج نفسه في السياسة وكان معتدا بآرائه عنيدا فيها في الوقت الذي اشتهر فيه بالخور تجاه السلطة والانكليز فعرض نفسه لكثير من الشك والتجريح وكان يكابر المجلسيين ويأبى الرضوخ لقرارات المجلس الجوهرية التي تخالف رأيه حتى لو اجمعوا جميعا عليها، لا سيما تلك التي تتسم بالتصلب في الحقوق العامة تجاه السلطة لانه يعتقد ان الاصل في كافة الحقوق العامة هي ملك للحاكم وليس للشعب فما تنازل عنه الحاكم فهو منة وكرما منه وما منع او امتنع عنه لا تصح مطالبته او الالحاح عليه فيه.وقاده هذا الرأي الى ان يكون داخل المجلس ملكيا اكثر من الملك كما يقولون، فلا تعرض حادثة او ينشب أمر يحاول الأعضاء اقناع سمو الأمير بتعديله او التساهل فيه لصالح الشعب حتى ينتصب فيهم مدافعا عن حق الحاكم ومثبطا العزائم في حجج واقاويل يلمسون الوهن والخور فيها، اما تجاه الانكليز ففي رأيه لا يصح مطلقا المناقشة معهم فما على المجلس اذا أمر الانكليز الا ان يطيعوا دون التشبت حتى في مراجعتهم واقناعهم بالحسنى، وقد سبب هذه المواقف والآراء الخائرة من الشيخ يوسف وهو زعيم قومه وذو المكانة المرموقة لدى الجميع مصاعب جمة لأعضاء المجلس لحرصهم اولا على توحيد وجهة المجلس امام المفاوضين ولرغبتهم على عدم اغضابه من ناحية اخرى ولكن ثمة من المواقف والامور التي عرضت للمجلس ما لا يصح التهاون فيه فاضطروا الى مخالفته مرارا كثيرة مرغمين. فغضب منهم وقدم استقالته من المجلس، لكنهم ذهبوا اليه واقنعوه بالاشتراك معهم على الاقل في الجلسات التي تعرض لشئون المعارف والقضاء فقبل وان كان قد كن في نفسه ما يكنه الغاضبون، فلم يسلموا من نقده وتجريح اعمالهم عند عامة الناس.
مشعان الخضير، سليمان العدساني، سيد علي سليمان، مشاري الحسن البدر
وهناك ثلاثة بل اربعة من أعضاء المجلس قد آلفت بينهم ظروفا كثيرة سابقة في النضال الطويل للاصلاح والخدمات العامة وقد لقوا في ذلك عنتا كثيرا وتحديات قوية من رجال السلطة والحاشية احدهم الحاج مشعان خضير الخالد المشهور بنزاهته المنقطعة النظير وكان ميالا الى المسالمة واخذ الامور باللين والحكمة وقد فرض عليه ان يتولى رئاسة مالية الحكومة، فقام باعباء المالية خير قيام دون اي راتب او لقاء. وثانيهما سليمان خالد العدساني وهو من عائلة العدساني التي تولت القضاء في الكويت ما ينيف على المائتي عام، وقد اتصف بالدقة وسلامة التفكير وبعد النظر وحسن المعرفة، وثالثهما هو السيد علي السيد سليمان الرفاعي وهو تاجر كبير ووطني جرئ ذو همة ماضية وعزم لا يخور. اما السيد مشاري الحسن البدر فزميل هؤلاء الثلاثة في مجلس البلدية والمعارف قبل انشاء المجلس التشريعي ورفيقهم منذ القدم في النية والعمل والتدبير، وقد اندمج مؤخرا في مجموعة هؤلاء وتعاون معهم شابان من اقوي شباب الكويت نفوذا وامضاهم جرأة وعقيدة فكانا من العاملين الممتازين داخل المجلس التشريعي وخارجه، الأول هو:عبدالله الحمد الصقر
عميد بيت الصقر من آل الزايد اعرق عائلات الكويت وابرزها جاها وغنى، وكان على درجة حسنة من التثقيف والمعرفة يتوقد غيرة ونشاطا في سبيل انهاض الكويت ورفعه الى مستوى البلدان الناهضة وقد استطاع هذا الشاب ان يجعل من نفسه رغم حداثة سنه واشتغاله بشئون الكويت العامة، محورا للقضية الوطنية وصوتها المسموع وذلك لما توفر فيه من مؤهلات الزعامة حينذاك مع النزاهة والتجرد، اما الثاني فهو رفيقه وقريبه عبداللطيف نجل الحاج محمد الثنيان الغانم وهو شاب يتوقد همة ونشاطا شق لنفسه الطريق بجرأته وقوة عزيمته كان دائب الحركة كثير السعي قوى صلته بكتلة الشباب الوطني خارج المجلس حتى جعل منها آلة تسمع منه وتأتمر بأمره.محمد الشاهين الغانم ومحمد الداود المرزوق
رجلا صمت ووقار مع غيرة خالصة على الصالح الوطني وتأييدا مطلقا للوطنيين العاملين من اركان المجلس.خالد العبداللطيف الحمد
فكان اعذب المجلسيين روحا واجملهم بديهة ونكتة فما حمى وطيس النقاش يوما داخل المجلس الا وكان له من نكات (ابي سليمان) الرائعة فلتة مغلقة فيها الحل والدواء، وكان الى ذلك سديد الرأي بارع الحيلة والتفكير.يوسف الصالح الحميضي
فكان من الذين يشايعون الاصلاح عموما رغم روحه المسالمة التي اشتهر فيها وقد فاد المجلس بآرائه وخبرته بالشئون الادارية والمالية.صالح العثمان الراشد
من الأعضاء المتحمسين الثابتين على العقيدة والمبدأ كثير الصمت والسهوم الا فيما يتصل بالمهمة المناطة به وهي الاشراف على قوة البادية وحفظ السلاح.يوسف المرزوق
كان من الدعائم القوية التي قام عليها المجلس في بداية أمره وكان داخل المجلس مخلصا ومتعصبا للقضايا الوطنية، غير انه كان ذا مزاج عصبي سريع الاندفاع والانفعال، فاستغل المستغلون هذه الظاهرة فيه فجاءوا يستفزونه ذات يوم بقصة المظاهرة التي زعموا ان شباب الكتلة الوطنية ينتوون القيام بها ضد عبدالله الملا صالح فهاج يوسف المرزوق ونقل السلاح في سيارته وهدد وأوعد مما اضطر المجلسيون الى عقد جلسة طارئة لمناقشته ثم فصله كما شرحنا ذلك في الهامش.سلطان ابراهيم الكليب
من عائلة آل خالد العريقة في الكويت وكان من الدعاة الطويلي الباع في فهم عقلية الجمهور واثارته، ذا ارادة قوية وعزم وفير التصق بالمجلسيين قبيل حركة المجلس اذ كان ناقما على الملا صالح الذي تخلى عنه في انتخابات ادارة شركة الكهرباء (شركة الكهرباء تأسست في امتياز تحصل عليه المساهمون وكان من اكبر المساهمين الملا صالح وولده عبدالله وولوا عليها السيد سلطان الكليب في بداية تأسيسها كمدير ادارتها ثم لبعض الاسباب تخلوا عنه) واناطوا به الاشراف على شئون العمران وفي اواخر ايام المجلس عندما بدأ الخلاف يدب بين المجلسيين وبين السلطة كان المرحوم سلطان يثير عزيمة المجلسيين وينصح بالشدة والبطش فلم يستمعوا له، فلما وضح ضعف المجلسيين في نهاية ايام مجلس الأمة التشريعي الثاني التجأ سراً الى قصر دسمان طالبا العفو والمغفرة ومقدما استقالته من المجلس متبرءا من جماعته فكان نصيبه عند سقوط المجلس ودخول بعض جماعته السجن ان عينه الأمير مباشرة مدير بلدية الكويت.
قيام مجلس الأمة التشريعي الثاني
اعقب سقوط المجلس التشريعي الأول هجوم العائلة الحاكمة على كافة الدوائر والمصالح الكويتية كيفما اتفق ودون سابق انذار، فقد استلم الشيخ عبدالله الأحمد الجابر النجل الأول لحاكم الكويت زمام الأمر في قصر نايف وشكل داخله قوة دائمة من البدو والفداوية.
كما هيمن الشيخ علي الخليفة الصباح والشيخ فهد السالم الصباح على دائرة الشرطة التي اطلقوا عليها فيما بعد (مديرية الامن العام) وكان مقرها الجانب الشرقي من ساحة الصفاة وكانت تنظر في كافة القضايا الجنائية ثم لما تفرد بها الشيخ عبدالله المبارك الصباح ونقل مقرها الى قصر نايف وضم دائرة الجوازات اليها وجعلها تنظر في جميع الشئون الحكم دونما حد ولا تمييز.
كما ترأس دائرة الشرطة النظامية صباح السالم الصباح بينما تولى رئاسة امارة البحر الساحلية الشيخ محمد الجابر الصباح وهو غير محمد أحمد الجابر الصباح.
وقد جرت هذه الهيمنة دونما استصدار ارادة من الحاكم غير ان سموه لم تبدر منه اي معارضة ولا سواها بل كان في الغالب الشيخ فهد السالم الصباح هو الارادة الفعالة في غالبية التدابير المتخذة بعد سقوط المجلس التشريعي والتي تتميز افعاله بطابع الجرأة والاندفاع الشديد.
وبذلك اقتسم أفراد العائلة الحاكمة الكبير منهم والصغير رئاسة كافة الدوائر العامة باستثناء دائرة المالية التي بقيت تنتظر الاقدار، وبقى رئيسها السابق المعين من قبل المجلس التشريعي مشعان الخضير يديرها بالاستمرار
بعد صدور أمر رئيس المجلس الشيخ عبدالله السالم كما كان الحال عليه سابقا. وقد تجلى من هذه التغييرات المرتجلة ان الاحوال في الكويت اصبحت غير طبيعية فالتضارب في الاحكام والتنازع على الصلاحيات اصبح أمرا شائعا صار صاحب الحق كيف وانى يعالج أمره. اما المعارضين من الناقمين وغيرهم فقد باشروا الاتصال بالحاكم ليتفقوا واياه على كيفية الاجراءات التي تتخذ لمباشرة الانتخابات الجديدة للمجلس التشريعي الثاني الذي يحاولون بكافة السبل والاساليب ان يفوزوا فيه وحدهم ما وسعهم العمل الى ذلك.وفي ليل الاثنين السابع والعشرين من شوال سنة 1357 ارسلت ماية واربعة بطاقات دعوة لبعض الكويتيين تدعوهم للحضور صباح اليوم التالي في دار الحاج عبدالرحمن محمد البحر التاجر المعروف ليتداولوا معهم في انتخاب أعضاء المجلس التشريعي الجديد بعد ان اغفلوا دعوة كافة أعضاء المجلس التشريعي المنحل تعمدا، غير ان نفرا من المدعوين كبر عليهم الأمر وهم الشيخ أحمد بن خميس، الحاج على العبدالوهاب المطوع، الحاج فليج العلي الفليج، علي البنوان، اعترضوا على طريقة الدعوة محتجين على التحيز الصريح في اختيار الناخبين ونادوا بوجوب عقد اجتماع آخر بعيدا عن الغرض والتحيزات فكان لصيحتهم اثرها المحسوس في نفوس المجتمعين انتصر لها بعض الحاضرين الآخرين، فاضطرب حبل الاجتماع وساد الناس الهيجان والانفعال رغم المحاولات التي بذلها الداعون لتهدئة الاحوال ثم انفض الاجتماع على لا شئ.
وكانت هذه الثورة المفاجئة رغم تسلط القوى واستعراضات السلاح باعثا على تفكير بعض عقلاء البلد واعيانها في وجوب تدارك الفتنة فاتصلوا بزعماء الجانبين واقنعوهم بوجوب التفاهم على طريقة الانتخابات والاتفاق على توحيد الكلمة ونسيان الماضي ودعي الجميع الى دار شملان بن علي بن سيف عميد آل الرومي فحضر الى الدار غالبية أعضاء المجلس المنحل مع الفريق الآخر الذين يمثلون المعارضة وهم ثنيان الغانم وخالد الزيد الخالد ومحمد أحمد الغانم ويوسف عبدالوهاب العدساني ونصف يوسف آل نصف ويوسف مرزوق المرزوق وغيرهم، وبينما كانت الايدى تتصافح للتعاهد على توحيد الكلمة لخدمة الوطن خدمة مجردة من الاغراض والاحقاد قال عبدالله الصقر اني اعاهدكم بالتعاون على اساس الوثيقة الأولى التي وقعها سمو الأمير في صلاحيات مجلس الأمة والتي جاء في ديباجتها (الأمة مصدر السلطات ممثلة في هيئة نوابها المنتخبين) فصاح خالد الزيد قائلا: "كلا، تلك صلاحية انتهى أمرها ونحن لا نقرها". وقد كانت هذه الصرخة الناشزة من خالد الزيد فلتة لسان تورط فيها الرجل تزلفا الى الحاكمين اذ كان يظن ان السلطة تحاول الاسباب التي تؤدي الى الغاء تلك الوثيقة الشرعية التي فازت بها الأمة كيما ينفسخ المجال لرجال الحاشية وللمتنفذين التصرف المطلق كما كان الحال في ايام خلت.
وقد ادرك الباقون من زملاء خالد الزيد عاقبة هذه الصرخة المنكرة على شعبيتهم في اوساط الراي العام الكويتي وهم يتأهبون لخوض انتخابات جديدة يدعون لانفسهم فيها بشعارات خدمة الوطن والغيرة على مصلحة الكويتيين فصاحوا به: "اسكت.. اسكت"، ونادوا جميعا بوجوب التمسك بتلك الوثيقة وقالوا انها يجب ان تكون الدعامة الأولى للحكم الديمقراطي البرلماني في الكويت ثم تعاهدوا مع أعضاء المجلس الأول على الاستماتة في سبيل تلك الوثيقة والتبرأ من كل من يحاول الانتقاص منها. وحصل حماس وطني تقاربت فيه النفوس وتبخرت الاحقاد ومال المتخاصمون بالامس بعضهم على بعض يعانق كل منهم الآخر ويعاهده على التآزر في سبيل الخدمة المجردة لخير الكويت وجميع من فيها، وانفض الاجتماع بعد ان اتفق الجميع على تعيين لجنة مشتركة منهم للتفاهم على اختيار الناخبين الصالحين وطريقة الاشراف على سير الاجراءات للانتخابات المقبلة، ثم اجتمعت اللجنة المشتركة بعد ذلك وهيأت قوائم بأسماء ما يقارب اربعماية ناخب من كافة احياء الكويت وأُسرها من جميع الطوائف والمذاهب المختلفة وحدد يوم معين لدعوة الناخبين الى الحضور الى المدرسة المباركية وحدهم لانتخاب عشرين عضوا للمجلس التشريعي الثاني تحت اشراف اللجنة المختارة والمرضي عنها من كافة السكان.
وقد ارتأى الجميع زيادة أعضاء المجلس الى عشرين عضوا هذه المرة بدلا من الخمسة عشر عضوا في المجلس الأول كيما يتسنى لاكبر عدد ممكن من مختلف الجهات ان يمثل في المجلس الجديد وليتسنى لاكبر عدد ممكن التآزر والتعاون معا للدفاع عن مصالح الأمة التي تتطلب في هذه الفترة الحرجة التضحية والاخلاص من الجميع بعد ان وصلت الامور الى ما وصلت اليه من الانحلال والفوضى في عموم المصالح والاحكام.
وقد صدرت في صبيحة يوم الانتخاب ووزعت نشرات مختلفة من جانب المعارضين السابقين تحتوي على عشرين مرشحا وفي كل نشرة مختلفة عن الاخرى يتصدرها اربعة او خمسة اسماء من البارزين فيهم بينما تغفل الاسماء الاخرى في نشرة اخرى لتحل محلها اسماء جديدة في نشرة ثالثة او رابعة ليكسب هؤلاء الأربعـة او الخمسة
اصوات محبي هذه الهيئات المختلفة التي حشرت فيها اسماء زعماءهم المحليين في جهات وطوائف الكويت المختلفة.اما المجلسيون السابقون فقد صدرت نشرتهم الواحدة محتوية على اسماء كافة أعضاء المجلس المنحل مع اضافة بضعة اسماء من انصارهم دون تغيير او تبديل في النشرات التي وزعوها وانعقد الاجتماع باشراف اللجنة المختارة في ساحة المدرسة المباركية ووضعت هناك قوة من أفراد الشرطة على الطرق المؤدية الى المدرسة المباركية لمنع اي كان من غير الناخبين المدعوين من الحضور الى مقر الاجتماع، ورغم ما ظهر من مناورات حاشية السلطة وتلويحاتهم فقد جاءت نتيجة الاجتماع بفوز سبعة عشر مرشحا من العشرين مرشحا الذين ضمت اسماءهم نشرة المجلسيين وبأغلبية الاصوات بالتسلسل الآتي بيانه فيما بعد وفاز فقط ثلاثة من الجانب الآخر وهم محمد أحمد الغانم، نصف يوسف النصف، يوسف عبدالوهاب العدساني، واليك النتيجة بالاسماء:
333 صوتا |
يوسف بن عيسى |
(1) |
265 صوتا |
مشعان الخضير |
4 |
252 صوتا |
عبدالله الصقر |
7 |
246 صوتا |
السيد علي السيد سليمان |
10 |
258 صوتا |
محمد بن شاهين |
5 |
275 صوتا |
حمد الداوود |
(2) |
270 صوتا |
خالد العبداللطيف الحمد |
(3) |
254 صوتا |
سلطان الكليب |
6 |
250 صوتا |
مشاري الحسن البدر |
8 |
248 صوتا |
عبداللطيف محمد الثنيان |
|
237 صوتا |
أحمد بن خميس |
|
233 صوتا |
يوسف الحميضي |
|
209 صوتا |
علي البنوان |
|
205 صوتا |
سليمان خالد العدساني |
|
204 صوتا |
صالح عثمان الراشد |
|
202 صوتا |
علي العبدالوهاب المطوع |
|
198 صوتا |
مشاري هلال المطيري |
|
185 صوتا |
محمد أحمد الغانم |
|
172 صوتا |
نصف يوسف النصف |
|
169 صوتا |
يوسف عبدالوهاب العدساني |
اما الاحتياطيون كما يسمونهم في الكويت فهم:
168 صوتا |
سرحان زيد السرحان |
|
158 صوتا |
عبدالرحمن محمد البحر |
156 صوتا |
ثنيان الغانم |
|
154 صوتا |
عبدالمحسن الناصر الخرافي |
|
150 صوتا |
عمر العلي العمر |
|
148 صوتا |
محمد حمود الشايع |
|
143 صوتا |
يوسف أحمد الغانم |
فكانت النتيجة هذه من اروع النتائج الدالة على ما للمجلسيين السابقين من مكانة وحب في قلوب غالبية الكويتيين كما انها جاءت صدمة قوية على عدد كبير من المعارضين الذين فشلوا في النجاح فلم يستطيعوا ترويض انفسهم على قبول عدم النجاح فبيتوا أمرهم للكيد سرا للمجلس الجديد بغض النظر عن المصلحة العامة لا سيما وقد كان الظرف دقيقا وحرجا على أعضاء هذا المجلس اذ طغى جانب من أفراد العائلة الحاكمة من الذين تولوا بعض المناصب على سلطة الرأس الاعلى للحكم وبدأوا يظهرون استخفافهم بالمجلس الجديد ومن فيه دون ان يبقى وزنا للاصول المتبعة او الانتظار لما قد تسفر عنه انظمة العهد الجديد لا سيما وقد جاءت الانتخابات هذه المرة بغير ما يتوخاها الحكام جميعا، فعاد الغموض يسود الكويت خلال هذه الفترة الحائرة المضطربة فلا الحاكم الاعلى يكاشف عما في نفسه ومعلنا الاتجاه الذي ينتوي السير فيه ولا القنصل الانكليزي وهو القوة الفعالة التي توحي بالخفاء يوضح من ميوله وحقيقة نواياه، وان كان الجميع يعلمون انها لا تبشر بالخير لا سيما وان نتيجة الانتخابات قد صدمته هو الآخر كما صدمت سواه من الحانقين.
وبقى المجلسيون الجدد يتلهفون على معرفة الحقيقة وتأدية الواجبات الملقاة على عواتقهم والتي يطالبهم الناس بها دونما حول ولا صول.
وقد اجتمع أعضاء المجلس الجديد لاول مرة فاجمعوا على انتخاب سعادة الشيخ عبدالله السالم الصباح رئيس المجلس السابق رئيسا لمجلس الأمة التشريعي الثاني من جديد، فحضر الرئيس والقى بضع كلمات شكر فيها الأعضاء على ثقتهم وابلغهم ان سمو الحاكم أمر بوجوب المباشرة باعداد دستور الكويت اولا ثم عرضه عليه وتوقيعه قبل ان يباشروا اي عمل آخر، ثم انسحب الرئيس من المجلس نزولا عند رغبة أمر سموه الذي الزم عليه بعدم ترأس جلسات المجلس الجديد قبل ان يتم الاتفاق على بنود الدستور واعلانه للعموم.
فحاول بعض الأعضاء الاعتراض على تجميد اعمال المجلس الذي تتركز عليه الاجراءات وتنبثق منه كافة الترتيبات في ادارة شئون البلاد طبقا للوثيقة اياها في صلاحية أعضاء مجلس الأمة الموقعة من حاكم البلاد وان الاوأمر والاحكام المتناقضة بدأت تصدر من جهات ومصادر كثيرة غير مسؤولة قانونيا، وطالبوا بوجوب مباشرة المجلس الاشراف على كافة الاعمال الحكومية كما كان الحال ايام المجلس التشريعي الأول متعهدين بالعمل الحثيث المتصل لاعداد مشروع الدستور، غير ان بعض الأعضاء الجدد في المجلس ممن كانوا يزعمون لانفسهم التكلم والتعبير عن وجهة نظر الأمير وايدهم في ذلك فريق آخر من المعتدلين اقنعوا الآخرين بوجوب التساهل في هذا الظرف الدقيق والنزول عند مقتضيات الحكمة والقبول بتجميد الاعمال الاخرى للمجلس ريثما يتم التفاهم مع سموه بشأن الستور وذلك حذرا من ان ينشب سوء فهم جديد بين المجلس والمرجع الاعلى للحكم قد يؤدي في نهاية الأمر الى خلاف ليس من مصلحة الجميع حدوث شئ منه، لا سيما في هذه الفترة الدقيقة التي يكتنفها الغموض بل والاستهتار في مشيئة الأمة من كل جانب، فقبل الجميع بهذه الملاحظات المهمة وأظهروا جميعاً رغبتهم في سرعة انجاز الدستور لرفعه الى سمو الأمير بأقرب فرصة ممكنة، وكلفت شخصياً بتحضير مواد دستور الكويت لعرضه على لجنة مختارة من المجلس مكونة من الشيخ يوسف بن عيسى، عبدالله الصقر، سليمان العدساني، نصف النصف، يوسف العدساني لمناقشتها وتنقيحها ثم عرضها على المجلس للبت فيها.
وهنا يجدر بي أن أورد ما جاء في مذكراتي اليومية التي كنت أدونها مساء كل يوم في بيتي إذ أن فيها صورة واضحة لتسلسل الأحداث فتعطي فكرة واضحة عن مراحل الأمور وتطوراتها.
يوم الثلاثاء الموافق 5 ذي القعدة 1357 هـ
حضر عندنا في غرفة السكرتارية عبداللطيف الصالح العثمان مأمور الجوازات وكان من الشباب الكويتي المتحمس وانبأني انه حضر له صباحا في دائرة الجوازات يوسف العبدالله النفيسي احد ابناء الحاج عبدالله النفيسي وكيل صاحب الجلالة الملك بن السعود ومعه بضعة موظفين تابعين للمملكة العربية السعودية طالبا منه التأشير على جوازاتهم مع اعفائهم من الرسوم المعتادة، ولكن عبداللطيف رفض اعفاءهم من الرسوم اذ لم تكن لديه تعليمات رسمية بهذا الصدد. ولما رد عليه يوسف النفيسي قائلا: "اني سأحضر لك أمرا من سمو الأمير"، قال عبداللطيف: "اني لا اعتبر الا الاوامر التي تصدر الي من المجلس كالعادة.."
وقد خطأت انا وزميلي أحمد السرحان الكاتب معي في شئون السكرتارية وصديق عبداللطيف على جوابه الاحمق هذا في هذا الظرف الدقيق، ووضحنا له ان هذا الحماس المتطرف يسئ الى القضية التي نخدمها جميعا بدلا من ان يفيدها وان جوابه هذا سوف يكون له عواقب غير طيبة ثم اقنعناه بوجوب تهذيب اقواله عندما يحقق معه بشأنها ولا بد لهم من ذلك.
يوم الاربعاء 6 ذي القعدة سنة 1357
بينما كان مجلس الأمة منعقدا للنظر في تأليف اللجنة الخاصة التي تنظر في شأن الدستور، حيث تم الاتفاق على جعلها من الشيخ يوسف بن عيسى، نصف بن يوسف، يوسف العدساني، عبدالله الصقر، سليمان العدساني.
جاءنا النبأ ان فهد السالم جاء الى دائرة الجوازات في سيارة مسلحة واخذ مأمورها عبداللطيف الصالح العثمان ووضع مكانه الشاب عبدالعزيز الجاسم البودي وقد تأثر الأعضاء من هذا الاجراء الكيفي بعزل احد الموظفين وتعيين غيره في مكانه دون مراجعتهم او تبليغهم بالاسباب، ورجوا من الشيخ يوسف الاستفسار من حقيقة الاسباب.
وبعد انفضاض الجلسة بلغنا ان مأمور الجوازات الأول اخذ الى الشيخ علي الخليفة من دائرة الامن العام وضرب هناك ضربا موجعا ثم جر الى السجن في شكل مظاهرة مسلحة، فخرجت الى السوق ونشطت الأعضاء على وجوب عقد اجتماع من اعيان الكويت للتداول في القضية ووضع حد لهذه الاساليب الهمجية المغايرة للنظم البشرية، واحضرنا مع العضو عبداللطيف الثنيان بعض السيارات لنقل كافة الأعضاء مع بعض الرجالات المتحمسين الى دار عبدالله الحمد الصقر حيث جرى هناك نقاش شديد واستفظاع للعمل الهمجي، وقد حاول الشيخ يوسف بن عيسى تلطيف القضية قائلا: "انه سأل من الشيخ علي الخليفة عن الباعث على ضرب المأمور بتلك الصورة الفظيعة"، فأجابه: "ان الولد تلكأ في رد التهمة، وتعلمون ان ابن السعود قويا ونحن ضعفاء وقد ضربنا الولد تطييبا لخاطر بن السعود".
والحقيقة انه أمر القاء الولد ارضا وضربه 35 ضربة قوية ثم هدد وجماعة شباب الكتلة الوطنية بتفريغ المسدسات في رؤوسهم، وقال الشيخ يوسف ما قاله عن كلام الشيخ علي محاولا تهدئة ثائرة الحاضرين ولكنه على العكس من ذلك زاد من ثائرتهم بذلك المنطق السليم من جواب الشيخ علي الخليفة اذ لم تحصل من الولد اية اهانة بحق صاحب الجلالة الملك بن السعود وانما هو تعليلات تعسفية يراد بها مجرد الارهاب والانتقام من كافة موظفي المجلس المنحل بالبطش او فصلهم وراء اتفه الاسباب، لذلك تواصى اكثر الحاضرين بالذهاب الى سمو الأمير لمخاطبته في ذلك ووضع حد لهذه الخشونة التعسفية ومظاهرات العداء التي كانت تطوف بها قوات الأمير المسلحة لارهابهم اذ لم يبدر من المجلس الجديد اية بادرة تدل على الاختلاف معه حتى يعرضوا الى مثل هذه التدابير العدائية، ولكن يوسف بن عيسى وقليل معه اصروا على عدم الذهاب الى الشيخ على تلك الصورة، واخيرا نزل الحاضرون على فكرة انتداب يوسف بن عيسى ونصف بن يوسف ويوسف العدساني وحدهم بصفتهم الفريق المرضي عنه عند سمو الأمير لعرض اقوال الجماعة على سموه على ذلك المنوال في الساعة التاسعة مساء من ذلك النهار، وفعلا ذهب الوفد بعد انضمام الحاج أحمد الحميضي اليه ثم رجع موضحا للحاضرين ان سمو الأمير لا يرضى بما حصل اما القوة المسلحة التي يرونها تطوف بالمدينة فهي لهم وليست عليهم.. وسيأمر بكفها وانه أمر باطلاق سراح مأمور الجوازات الخ ذلك من الكلمات الطيبة، وقد عرض الوفد على سمو الأمير بمناسبة ذلك اللطف الذي صدر منه ان يحضر اليه غدا كافة أعضاء المجلس الجديد بما فيهم أعضاء المجلس المنحل، عل ذلك يكون بادئة عهد تزول فيه آثار سوء الفهم الذي جرى في العهد المنصرم خلال انحلال المجلس الأول، وبعد مداولات يسيرة رحب الأعضاء جميعا بذلك الاقتراح الحسن وقد اتفق على عدم تطرق الحديث الى الشئون السياسية بل الاقتصار على الاحاديث والمجاملات العادية التي تقرب النفوس.
وفي مساء ذلك النهار وردت البرقيات العديدة من الملا صالح الى اصدقائه وغيرهم ينبأهم فيها عن عزمه على القدوم غدا الى الكويت وغايته من ارسال تلك البرقيات الكثيرة على تلك الصورة المعروفة حمل الاشخاص المرسلة اليهم على مواجهته خارج المدينة والدخول معه اليها بصورة الفاتح المنتصر.
فكان الايعاز البديهي الى الملا صالح الملا بالقدوم الى الكويت في ذلك اليوم الذي تقرر فيه اجتماع أعضاء المجلس بسمو الأمير خير دليل على عدم حسن النوايا المبتدئة من قبل سموه لايجاد حسن التفاهم المطلوب، خصوصا لمن يعرف حقيقة ماضي الملا واساليبه العديدة في الدسائس وايقاع الفتنة بين الأمير ورجال الكويت الاحرار.
وقد ذهب الى سمو الأمير يوسف العدساني ويوسف الأحمد الغانم اخو محمد الأحمد الغانم الاكبر وهو من اصدقاء الشيخ المقربين لمعالجته واقناعه في تأجيل قدوم الملا ريثما تستقر الاحوال بالكويت، غير ان سموه امتنع عن ذلك لانه سبق ان ابرق اليه بالسفر.
فتبرع يوسف الأحمد الغانم شقيق العضو محمد الغانم الاكبر ويوسف العدساني بصفتهما مقبولين من سمو الأمير وحادثاه في قدوم الملا صالح في مثل هذا الوقت الذي يعلق عليه الناس حسن الآمال للتفاهم والمحبة، وحاولا اقناعه بتأجيل قدوم الملا حيثما تستقر الاحوال وتهدأ النفوس الا ان سموه امتنع عن ذلك محتجا انه سبق الابراق اليه بالقدوم..
يوم الخميس 7 ذي القعدة 1357
اجتمع أعضاء المجلس في مجلسهم جميعا صباح اليوم كالعادة، وانفردت اللجنة المؤلفة لسن الدستور وبالاصح دراسة مسودته التي كانت مهيئة من ايام المجلس التشريعي الأول المنحل، واجل النقاش عليها اذ ذاك حذر الاصطدام مع الأمير الذي كان اذ ذاك يتشبت بحيادة حل المجلس، وزينها له المزيفون، واجراء ما يتطلب الظرف الحاضر من تعديلات او تغييرات تقتضي بها الظروف. وعند تمام الساعة الخامسة غروبية ذهب الجميع الى قصر الشيخ الكائن قرب بناية الجمرك حيث وجدوا سموه وصافحوه واحدا بعد آخر. وفتح الحديث يوسف بن عيسى ببعض مداعبات خرج منها سمو الحاكم الى مجاملة الأعضاء باسلوبه الودي المعروف، وكان مما قاله حرفيا: "يا جماعة انا اخوكم انا ابوكم انا خادمكم، اذا رأيتموني مخالفكم دوسوا على خناعي"، ثم تطرق الى مداعبة عبدالله الصقر وخالد العبداللطيف عن ولائمهم قائلا: "انه لايستغني عنها"، وقد خرج الجميع بعد ذلك من لدن سموه مرتاحين من هذا الكلام الطيب يسود بعضهم روح التفاؤل والامل.
وعند مبارحة أعضاء المجلس القصر الأميري علا ضجيج ابواق السيارات القادمة مع سيارة الملا صالح والتي ترافقه في استقباله، وكانت اكثرها مؤجرة من قبل ابنه عبدالله المشغوف بالدعاية والمظاهرات الكاذبة كأبيه، لتقل المستقبلين من الاعاجم والنكرات وفريق من الذين جبلوا على الاستخذاء للملا اعتقادا منهم في قوة سحره وطلاسمه او من الذين ظلوا اعداء لأعضاء المجلس السابق يريدون بهذا التزمير والتشييع بالابواق والسيارات كيد خصومهم على الشكل التهريجي الصبياني، وقد استهجن الجميع هذا العمل السخيف واعتبروه افتئاة على عواطف الأمة لمسايرتهم رجلا اشتهر بكيده للامة وخيانته لها طوال ايام حياته، ومن المضحك ان الملا نظم (عرضة) واستدعى شلة من المومسات والعبدات لاحياء ليالي الانس احتفاء بقدومه فكانت من اجلى المساخر التي فضحت للملأ عقلية هذا الرجل المستهتر والمحدود المدارك والتمييز.
يوم الاحد 11 ذي القعدة سنة 1357
بناء على قرار السلطة القاضي بتعطيل كافة الاعمال احتفاء بعيد رأس السنة الميلادية 1939، رأى أعضاء المجلس التشريعي ان يقضوا عطلتهم ذلك اليوم في قرية الدمنة الساحلية بمحل احدهم -خالد العبداللطيف الحمد- ليتباحثوا هناك في مواد الدستور نهائيا، وقد مروا في طريقهم بالقنصل الانكليزي لتهنئته بعيد رأس السنة، فكان الاستقبال فاترا وقصيرا ولم تتخله الا احاديث قصيرة ومتكلفة تناسب الوحشة الموجودة بين الطرفين. وقد اعتزل الأعضاء الحاضرون من اللجنة الدستورية وهم يوسف بن عيسى، سليمان العدساني، يوسف العدساني، نصف اليوسف، وحضرت بينهم لتسجيل المواد والملاحظات المطلوبة، وعرضت المادة الثانية القائلة: (الكويت ذات سيادة مستقلة الخ..) فحاول الشيخ يوسف الاعتراض على لفظة سيادة مستقلة، لانها في معرفته بلاد تحت الحماية، فأقتنع من الباقين ان الكويت وان كانت مرتبطة مع بريطانيا بمعاهدات ومكاتبات تخول بريطانيا ببعض الامتيازات السياسية الا ان ذلك لا يتعارض وذلك التعريف، اما الحماية فلها اوصافها وشروط في القانون الدولي لا تنطبق على الكويت فتساهل في ابقاء العبارة قائلا: "انه يقر بقاءها الآن ولكن متى اعترض عليها فإنه يقر رأي المعترضين"، فقبلوا منه هذا التحفظ وبقت العبارة كما هي.
ولما جاء دور المادة الثامنة القائلة : (سيادة الحكم للأمة وهي وديعة الشعب لذرية المغفور له الشيخ مبارك الصباح)، اعترض الشيخ يوسف ثانيا على لفظة (للأمة وهي وديعة الشعب) طالبا حذف هذه الالفاظ باعتبارها منافية للواقع، وقد حاول البعض مرارا اقناعه بان ذلك ليس فيه اية منافاة للاصول المتبعة في كافة دساتير العالم فالأمة في كل شعب له دستور واصول برلمانية هي صاحبة السيادة تودع سيادتها من تشاء وقد اتفق الكويتيون الأولون على جعل سيادة الحكم لآل الصباح وان هذه الالفاظ المعبرة عن الواقع ليست قابلة التأويل لغير هذا المدلول الطبيعي في نشوء الجماعات والشعوب، ولكن يوسف بن عيسى أبى الاقتناع بهذا الكلام وأصر على حذفها، فتساهل الأعضاء بدورهم معه على قبول حذفها وبقت المادة متصلة بدونها هكذا: (سيادة الحكم لذرية الشيخ الخ..)، ولما جاء الدور الى الباب الثاني المعنون بالحاكم، اقترح كل من الشيخ يوسف ونصف وضع مادة تمنح الحاكم حق حل المجلس التشريعي. وقد كانت هذه الفكرة متوخاة ومتوقعة من الجميع ولكن الحيرة كانت كبيرة تجاه وضع مثل هذه المادة التي تخول الحاكم في الكويت حق حل أي مجلس تشريعي كان وضعت فيه الأمة ثقتها مع معرفة الظروف والاحوال الشاذة التي يعلم الكويتيون حقيقتها وأولها التأثير الكبير التي تتمتع به حاشية الحاكم على إرادته وتفكيره فتقوده دائما الى الاستيحاش على الاقل من الرجال الاحرار المصلحين والنفور منهم، وان وضع مثل هذه المادة التي هي سلاح ماضي بيد ذلك النوع من الحكام الضعفاء بين نصوص الدستور فيه كل معاني الاستهتار والاستخفاف بارادة الأمة (وان وجود مثل هذه المادة في نصوص الدستور) سيجعل من كافة المجالس النيابية هزء هازئ اذ هي معرضة عند غضب الأمير للحل بأتفه واشنأ الاسباب عن مصلحة الأمة ورغباتها. وليس ذلك فقط بل وحتى في حالة غضب الأمير وسخطه بالذات، واذن فلا فائدة ترجى من قيام مجالس تشريعية مع وجود مثل هذه المادة الهادمة بالنظر الى هذه الاعتبارات، ولكن كيف يكون المخرج والشيخ يوسف نفسه وهو ذو المكانة المعروفة عند العامة بصفته رجل دين وورع في مثل هذا الوقت العصيب الدقيق أمر لا يقره العقل وليس ضمن حسن السياسة في شئ. واذن فليداور بقية الأعضاء هذا الشيخ يوسف ما يداورونه في تقييد مثل هذه المادة وتحديدها، وانهم ليفعلون ذلك بالكياسة والمنطق السديد الى ان يصلوا واياه الى وضع مادة الحل بهذه الصيغة فتكون المصيبة في نظرهم اهون وان كانت مصيبة على كل حال:
(للحاكم حل المجلس التشريعي متى نشبت باسبابه فتنة عامة في البلد استعصى حلها بالطرق السلمية، على ان تشمل الارادة القاضية بالحل الأمر باجراء الانتخابات للمجلس الجديد خلال اسبوع واحد من تاريخه).
وبعد ان استحدثت المواد 29 و 30 و 31 و 32 و33 الخاصة بالهيئة التنفيذية والتي لم تكن مسماة في المجلس التشريعي الأول، اقرت كافة المواد الاصلية كما وردت في المسودة القديمة الموجودة
(..) المجلس الأول، وبعد اتفاق اللجنة على مواد الدستور بأجمعها ناول يوسف العدساني لفافة مسودة الدستور الاخيرة الى الشيخ يوسف العيسى وهو يقول:- "الديك ما تقوله الآن عن هذه المواد وهل بقى في نفسك ما يستوجب التعديل منها؟".
- أجابه الشيخ قائلا: "لا ولم يبق في نفسي اي اقتراح جديد".
- "اذا فاننا نشهد عليك انك موافق على هذه المواد جميعها تمام الموافقة".
- "لكم ان تشهدوا علي بذلك" -وهو يبتسم-
- "ليس هذا ما نريده منك فحسب وانما نريد منك ان تعدنا بانك ستدافع عنها امام الأمير حيت تسلمها اياه كما تدافع عن نفسك".
- "نعم ولكم ذلك" -وهو يبتسم ثانية-
- "اذكر كلامنا هذا جيدا يا شيخ يوسف فقد نحتاج اليه".
وتنتهي المذاكرة بالدستور عند ذلك الحد ويرجع الجميع مساءً الى الكويت مرتاحين من هذه النتيجة، فقد كان الكثير يحاذر من حدوث خلاف يستعصي حله داخل اللجنة الموكول اليها تحضير الدستور الجديد.
يوم الاثنين 12 ذي القعدة 1357
قرأت على الأعضاء داخل المجلس مسودة الدستور الجديد في صيغتها الاخيرة وبعد نقاش بسيط اقرها الجميع وطلبوا مني تبييضها وتسليمها الى الشيخ يوسف بن عيسى بصفته نائب رئيس المجلس. وفعلا بيضت الدستور في دفتر لائق سلمته الى الشيخ يوسف، فذهب به هذا توا الى قصر الأمير وبعد ان ناوله اياه قال له ما يأتي: "هذا الدستور اخذنا مواده عن مواد الدستور العراقي مع بعض التصرف ليناسب احوالنا في الكويت، فإذا ابدى احد لسموكم وجه اعتراض عليه فأعضاء المجلس يقبلون ذلك من أي كان ما دام الاعتراض وجيها ومستندا على حجج قانونية". فرد عليه سموه قائلا: "سوف ادرسه خلال ثلاثة ولا بد من عرضه على القنصل الانكليزي لانه طالب مني ذلك.. ثم انبئك بما يبدو"، وخرج يوسف بن عيسى من لدن سموه على هذا الاتفاق.
واليك الدستور بجميع مواده كما رفع الى سمو الأمير لتوقيعه:
بسم الله الرحمن الرحيم
القانون الاساسي الكويتي
نحن حاكم الكويت بناء على ما قرره مجلس الأمة التشريعي صادقنا على قانوننا الاساسي وأمرنا بوضعه موضع التنفيذ.
المقــــــــدمة
1 ) يسمى هذا القانون (القانون الاساسي الكويتي) وأحكامه نفاذة في جميع انحاء الامارة الكويتية.
2 ) الكويت ذات سيادة مستقلة أراضيها لا تتجزأ ولا ينزل عن شئ منها وشكل حكمها نيابي.
3 ) تعتبر مدينة الكويت عاصمة الامارة الكويتية.
4 ) العلم الكويتي طوله ضعفا عرضه رقعته حمراء خالصة مكتوبا في وسطها على مجراً أفقي لفظة (كويت) بأحرف بيضاء، أما شعار الامارة وشاراتها الأخرى فتعين بقوانين خاصة.
5 ) جميع الاتفاقات والمعاهدات السابق ابرامها مع حكومة صاحب الجلالة البريطانية والمقترنة بتوقيع حاكم البلاد الحالي أو حكامها السابقين الى ما قبل صدور قانون صلاحية مجلس الأمة التشريعي تعتبر مصونة ونافذة في البلاد.
6 ) تعين الجنسية الكويتية وتكتسب وتفقد وفقا لقانون خاص.
الباب الأول
حقوق الشعب
7 ) لا فرق بين الكويتيين في الحقوق أمام القانون وان اختلفوا في المذاهب.
8 ) الحرية الشخصية مصونة لجميع سكان الكويت من التعرض والتدخل ولا يجوز القبض على احدهم أو توقيفه أو معاقبته أو اجباره على تبديل مسكنه أو تعريضه لقيود الا بمقتضى القانون. أما التعذيب ونفي الكويتيين خارج حدود الامارة فممنوع بتاتا.
9 ) المساكن مصونة من التعرض ولا يجوز دخولها والتحري فيها الا في الاحوال التي يعينها القانون.
10) لا يمنع أحد من مراجعة المحاكم المختصة ولا يجبر على حل عن غير طريق المحاكم.
11) حقوق التملك مصونة فلا يجوز فرض القروض الاجبارية على الأفراد كما لا يجوز حجز الأموال والأملاك إلا بمقتضى القانون. أما السخرة المجانية والمصادرة العامة للأموال المنقولة وغير المنقولة فممنوعة بتاتا ولا ينزع ملك أحد إلا لاجل النفع العام وبالطريقة التي يعينها القانون وبشرط التعويض عنه تعويضا عادلا.
12) لا تفرض ضريبة إلا بمقتضى قرار خاص.
13) للكويتيين حرية ابداء الرأي والنشر والاجتماع وتأليف الجمعيات والانضمام اليها ضمن حدود النظام.
14) الاسلام دين الامارة الرسمي.
15) تكون جميع المراسلات البريدية والبرقية مكتومة ومصونة من كل مراقبة وتوقيف إلا في الاحوال التي يعينها القانون.
16) العربية هي اللغة الرسمية في البلاد.
17) الكويتيون متساوون في التمتع بحقوقهم واداء واجباتهم ويعهد اليهم وحدهم بوظائف الحكومة بدون تمييز كل حسب اقتداره وأهليته ولا يستخدم في وظائف الحكومة غير الكويتيين إلا في الاحوال الاستثنائية التي تعين بقرار خاص.
الباب الثاني
الحاكــــــم
18) سيادة الحكم لذرية المغفور له الشيخ مبارك الصباح.
19) ولاية العهد لأكبر ذرية الشيخ المرحوم مبارك الصباح فالأكبر من الاحياء الذكور الصحيحي الادراك والتمييز.
20) يقسم الحاكم أمام مجلس الأمة التشريعي يمين المحافظة على أحكام القانون الاساسي والاخلاص للوطن والأمة على أثر توليه الحكم.
21) سن الرشد للحاكم تمام العشرين عاما قمريا، فاذا انتقل الحكم الى ما هو دون هذا السن يؤدى حقوق الحاكم (الوصي) الذي اختاره الحاكم السابق وذلك الى أن يبلغ الحاكم سن الرشد. ولكن ليس للوصي أن يتولى هذا المنصب ويؤدى شيئا من حقوقه ما لم يوافق مجلس الأمة على تعيينه فاذا لم يوافق المجلس على ذلك أو إذا لم يعين الحاكم السابق وصيا فالمجلس هو الذي يعين الوصي، وعلى الوصي اداء اليمين المتقدم بيانها أمام المجلس والى أن يتم نصب الوصي وادائه اليمين تكون حقوق الحاكم الدستورية لمجلس الأمة التشريعي يتولاها باسم الحاكم ويكون مسؤولا عنها ولا يجوز للمجلس ادخال تعديل ما في القانون الاساسي مدة الوصاية بشأن حقوق الحاكم ووراثته.
22) عندما تمس الحاجة الى اقامة الوصي يدعى مجلس الأمة التشريعي الى الانعقاد حالا فاذا كان المجلس منحلا ولم يتم انتخاب المجلس الجديد يلتئم المجلس السابق لذلك الغرض.
23) 1 - الحاكم راس البلاد الاعلى وهو الذي يصدق القوانين الرئيسية.
2 - الحاكم هو الذي يفتتح مجلس الأمة التشريعي لكل دورة (نيابية) جديدة.
3 - الحاكم يوقع المعاهدات التى يقرها ويصادق عليها مجلس الأمة التشريعي.
4 - لا ينفذ حكم الاعدام الا بتصديق الحاكم وللحاكم أن يخفف عقوبة الاعدام.
5 - الحاكم هو الذى يسوى جميع المنازعات الخاصة لعائلة الصباح على الوجه الشرعي. أما منازعاتهم المشتبكة مع حقوق الغير فتسويتها لدى المحاكم.
24) للحاكم حل مجلس الأمة التشريعي متى نشبت باسبابه فتنة في البلاد استعصى حلها بالطرق السلمية على أن تشتمل الارادة القاضية بالحل الأمر باجراء الانتخابات للمجلس الجديد خلال أسبوع واحد من تاريخها.
الباب الثالث
السلطة التشريعية
25) السلطة التشريعية منوطة بمجلس الأمة وله وحده حق وضع القوانين وتعديلها والغائها مع مراعاة أحكام هذا القانون.
26) في بداية كل دورة جديدة يفتتح الحاكم مجلس الأمة الجديد بذاته أو ينوب عنه في ذلك من يقوم مقامه.
27) مدة الدورة النيابية أربعة أعوام من تاريخ انعقاد أول جلسة قانونية.
28) لا يكون عضو في مجلس الأمة التشريعي:
1 - من لم يكن كويتيا.
2 - من كان مدعيا بجنسية أو حماية أجنبية.
3 - من كان دون الـ 25 من عمره.
4 - من كان محكوما عليه بالافلاس ولم يعد اعتباره قانونا.
5 - من كان محجورا عليه ولم يفك حجره.
6 - من كان محكوما عليه بالسجن لسرقة أو رشوة أو خيانة الامانة أو تزوير أو احتيال أو غير ذلك من الجرائم المخلة بالشرف بصورة مطلقة.
7 - من كان مجنونا أو معتوها.
8 - من كان من الاسرة الحاكمة.
9 - من كان أميا لا يقرأ ولا يكتب.
10- من كان موظفا يتقاضى الراتب من احدى الدوائر الحكومية من غير رجال الهيئة التنفيذية.
29) يتألف المجلس التشريعي من عدد لا يتجاوز العشرين عضوا بما فيهم رجال الهيئة التنفيذية.
30) ينتخب المجلس التشريعي من بين اعضائه هيئة قوامها ستة أعضاء وتسمى (بالهيئة التنفيذية).
31) تنحل الهيئة التنفيذية بانحلال المجلس التشريعي ويباشر اعضاؤها أعمال وظائفهم العادية حتى اذا التئم المجلس الجديد كان له الحق في اقالة أو اقرار من يرى ذلك منهم ولا يقر في الهيئة التنفيذية الا الفائزون بعضوية مجلس الأمة الجديد.
32) اذا قرر المجلس التشريعي عدم الثقة بالهيئة التنفيذية باكثرية الأعضاء الحاضرين فتعتبر مقاله واذا كان القرار المذكور يمس احد أعضاء الهيئة التنفيذية فيعتبر ذلك العضو مقالا وعلى المجلس في كلا الحالتين أن ينتخب بدل أعضاء الهيئة التنفيذية المقالة أو أحد اعضائها المقال من يخلفهم.
33) عضو الهيئة التنفيذية الذي يقال أو يستقيل منها يبقى على عضويته في المجلس التشريعي.
34) ينتخب المجلس رئيسا له ثم ينتخب من بين اعضائه وكيل الرئيس الأول ووكيله الثاني.
35) تعين طريقة انتخاب الأعضاء بقانون خاص يراعى فيه أصول التصويت السري الحر.
36) يجوز تجديد انتخاب النائب السابق.
37) للموظف الذي يفوز في انتخابات مجلس الأمة التشريعي حق الخيار بين قبول العضوية ورفضها والذي يقبل العضوية يجب عليه التخلي عن وظيفته.
38) يفصل مجلس الأمة التشريعي في المسائل المتعلقة بالصفات المؤهلة لانتخاب الأعضاء والطعن الموجه ضد انتخابهم وفي الاعذار والاستقالات المتعلقة بهم.
39) للعضو أن يستقيل من مركزه وذلك بأن يقدم استقالته كتابة الى الرئيس ولا تنفذ الاستقالة ما لم يقبلها مجلس الأمة.
40) العضو الذي يتغيب عن المجلس الى مدة شهر من غير اذن أو عذر مشروع يعد مستقيلا مع مراعاة المادة السابقة.
41) عند انحلال عضوية في مجلس الأمة بسبب وفاة أو استقالة أو فقد الصفات اللازمة أو تغيب عن المجلس يقضي بالاستقالة يجب أن يجرى انتخاب جديد بايعاز من المجلس.
42) على النواب قبل الشروع في أعمالهم أن يقسم كل منهم أمام المجلس يمين الاخلاص للحاكم والمحافظة على القانون الاساسي وخدمة الوطن وحسن القيام بواجب النيابة.
43) لا يباشر المجلس أعماله ما لم يحضر الجلسة أكثر من نصف الأعضاء بواحد.
44) تصدر القرارات باكثرية آراء الأعضاء الحاضرين ما لم ينص هذا القانون على خلاف ذلك واذا تساوت الآراء فللرئيس اذ ذاك صوت الترجيح ولا تحصل أكثرية ما لم يصوت نصف الأعضاء الحاضرين ويبدي كل من الأعضاء رأيه بذاته وتعين طريقة ابداء الرأي في النظام الداخلي للمجلس.
45) لكل عضو من أعضاء مجلس الأمة أن يوجه الى أعضاء أو أحد أعضاء الهيئة التنفيذية اسئلة وايضاحات وعلى الموجه عليه السؤال أو الاستيضاح أن يحضر بنفسه ليدلي بالجواب المطلوب بعد أسبوع على الأقل من يوم توجيه السؤال وذلك في غير حالة الاستعجال أو موافقة العضو المسؤول.
46) يبت المجلس في اللوائح القانونية مادة مادة على حدة ثم يبت بها جملة.
47) لا يجوز لأي قوة مسلحة الدخول على المجلس ولا الاقامة على مقربة من أبوابه إلا بطلب من أكثرية المجلس المذكور.
48) لا يجوز لأحد دخول المجلس ولا التكلم فيه إلا للأعضاء أو من يدعوهم المجلس الى ذلك.
49) لكل عضو حرية الكلام التامة ضمن حدود نظام المجلس ولا تتخذ أي اجراءات قانونية ضده من أجل تصويت أو بيان رأي أو إلقاء خطبة في مداولات المجلس ومباحثاته.
الباب الرابع
السلطة التنفيذية
50) يعين مجلس الأمة التشريعي جميع القضاة العدليين ولا يعزلون الا في الاحوال المصرحة في القانون المخصوص المبينة فيه شروط أهليتهم ونصبهم ودرجاتهم وكيفية عزلهم.
51) تعين كيفية تأسيس المحاكم وأماكن انعقادها ودرجاتها وأقسامها واختصاصاتها وكيفية المراقبة عليها وتنفيذ أحكامها بقانون القضاء الخاص مع مراعاة نصوص هذا القانون.
52) المحاكم مصونة من تدخل أية سلطة في شئونها.
53) تؤلف حين الحاجة محكمة عليا لمحاكمة أعضاء الهيئة التنفيذية أو رؤساء الدوائر القضائية عن الجرائم الناشئة عن وظائفهم، وللبت في الأمور المتعلقة بتفسير القوانين وموافقتها للقانون الاساسي.
54) اذا اقتضى اجراء محاكمة كما جاء في المادة السابقة تجتمع المحكمة العليا بناء على قرار اتهامي صادر من مجلس الأمة بأكثرية الاصوات من الأعضاء الحاضرين على أن لا يقل الثلثان عن عشرة أعضاء.
55) تؤلف المحمكة العليا من خمسة أعضاء أثنان من الذين يعينهم حاكم البلاد وثلاثة يعينهم مجلس الأمة وتنعقد المحكمة برئاسة رئيس مجلس الأمة ويجب أن تحسم دعاويها وفقا للقانون وبأكثرية ثلثي المحكمة وقراراتها ليست تابعة للاستئناف.
56) الاشخاص الذين يصدر مجلس الأمة بحقهم قرار اتهامي بالاكثرية الواردة في المادة (54) يجب أن تكف يدهم عن العمل حالا وإذا استقالوا يجب دوام التعقيبات القانوينة بحقهم.
الباب الخامس
الامور المالية
57) يجب أن تجبى الضرائب من المكلفين من طبقات السكان بدون تمييز ولا يجوز أن يعفى عنها أحد منهم إلا بموجب القانون - قرار خاص.
58) لا يجوز بيع أموال الدولة أو ايجارها أو التصرف بها بصورة أخرى إلا وفق القانون - النظام المقرر.
59) لا يعطى انحصار أو امتياز لاستثمار مورد من موارد البلاد الطبيعية أو لاستعماله أو مصلحة من المصالح العامة كما لا تعطى الواردات الأميرية بالالتزام إلا بموجب القانون.
60) لا يجوز للحكومة أن تعقد قرضا أو تتعهد بما يؤدي إلى دفع مال من الخزينة العمومية إلا بموجب قانون خاص.
61) يجب أن تدفع جميع الأموال التي يقبضها موظفو الحكومة للخزينة العمومية الموحدة وأن يعطى حساب عنها بحسب الاصول المقررة قانونا.
62) لا يجوز تخصيص راتب أو اعطاء مكافأة أو صرف شئ من أموال الخزينة العمومية الموحدة لاي جهة إلا بموجب قرار خاص ولا يجوز انفاق شئ من المخصصات إلا بحسب الاصول المقررة (قانونا).
63) يجب أن يصدق مجلس الأمة الميزانية في اجتماعه السابق لابتداء السنة المالية التي يرجع اليها ذلك القانون.
64) يجوز لمجلس الأمة سن قانون لتخصيص مبالغ معينة لتصرف في سنين عديدة.
65) يجب أن يسن نظام لتأليف هيئة لتدقق جميع المصروفات وترفع بيانا الى مجلس الأمة مرة على الاقل في كل ستة أشهر اذا كانت تلك المصروفات طبقا للمخصصات التي صرفها المجلس وانفقت بحسب الاصول التي عينها القانون.
تبديل أحكام هذا القانون
66) يجوز لمجلس الأمة خلال عام واحد ابتداء من تنفيذ هذا القانون أن يعدل أيا كان من المواد في هذا القانون أو حذفها أو الاضافة اليها على شرط موافقة ثلثي اعضائه الحاضرين على أن لا يقل الثلثان عن عشرة أعضاء غير رئيس المجلس.
67) عدى ما نص عليه في المادة السابقة لا يجوز قطعيا ادخال تعديل ما على القانون الاساسي الى مدة اربع سنوات من تاريخ تنفيذه ولا بعد ذلك الا بموافقة ثلثي أعضاء المجلس الحاضرين ما لم يقل الثلثان عن عشرة أعضاء (غير الرئيس).
68) اذا انتخب مجلس جديد آخر فأول ما يعرض عليه النظر في المواد المعدلة أو المحذوفة أو المضافة من قبل المجلس السابق فاذا أقر المجلس الجديد عمل المجلس السابق في المواد المذكورة كل مادة على حدة بموافقة ثلثي اعضائه ما لم يكن الموافقون أقل من عشرة (غيرالرئيس) أقرت المواد التي حصلت على الموافقة. أما المواد التي لا تحوز الموافقة بالأكثرية المذكورة فتبقى كما كانت عليه قبل التعديل الاخير.
69) ينفذ هذا القانون من تاريخ اقترانه بتصديق الحاكم.
يوم الثلاثاء 13 ذي القعدة 1357 الموافق 3 يناير 1939
وصل الى السيد علي نبأ من عبدالله الخالد البدر التاجر المعروف في البصرة يبلغه فيه انه هبطت على يوسف المرزوق الموجود ذلك اليوم في البصرة برقية من الملا صالح يقول له فيها: "الدستور قدم اليوم توجه سريعا"، ومعنى ذلك ان الملا يحث يوسف المرزوق -الذي كان ناقما على المجلس الجديد لعدم نجاحه في الانتخابات الاخيرة- على القدوم الى الكويت ليكون في جملة المشاغبين ضد قبول الدستور المعروض، وقد وصل يوسف المرزوق فعلا في نفس اليوم.
ان هذا الملا قد آلا على نفسه ان يكون جرثومة فتاكة في جسم هذا الوطن النامي ولم تثنه شيخوخته الكبيرة ولا العبر القاسية التي مرت عليه من معاكسة الغيارى من الوطنيين.
وقد اشار الذين بلغهم السيد علي بهذا النبأ عليه بأن يذهب هو ومحمد الأحمد الغانم الى يوسف بن عيسى الموكول اليه مراجعة الأمير بشأن الدستور لتبليغه بدسائس الملا صالح كي يكون على حذر منها. وقد بدى من الجميع حماسة قوية لوضع حد تقف معه هذه الألاعيب التي تبلبل كيان الوطن.
ليلة الخميس 15 ذي القعدة عام 1357
مساء هذا اليوم ارسل سمو الأمير على يوسف بن عيسى وقال له: "ان الدستور المقدم منكم طويل اكثر من الحاجة ويمكن اقتضابه"، فسأله يوسف بن عيسى: "أي المواد التي ترونها زائدة مثلا؟"، قال الأمير: "مادة وصف العلم الكويتي وما أشبه ذلك"، وقال ايضا: "ان القنصل الانكليزي ضحك منها.."، ويقول الشيخ يوسف: " اني اجبته قائلا بما معناه: هذه مواد شكلية فإذا كان لدى سموكم ملاحظات مهمة دونوها لنتباحث فيها". فأجابه الأمير: "لا بأس غدا اوضح لك ملاحظاتي".
وخرج الشيخ يوسف منه بهذا الرأي.
يوم السبت 17 ذي القعدة 1357
ذهب اليوم يوسف بن عيسى الى سمو الأمير وطلب منه الملاحظات التي وعده بها عن الدستور فرد عليه الأمير قائلا: "انه ما زال يدرس الدستور وسيوافيه بملاحظاته عنه".. وهكذا ابتدأ الأمير يمدد وعوده بابداء الملاحظات التي وعد بها يوما بعد آخر طبقا لعادته المعروفة وربما لغاية كان يكتمها.
يوم الاثنين 19 ذي القعدة 1357
اصبحنا هذا اليوم واذا باعلان يصدر من جانب مديرية الامن العام هذا فحواه:
"نعلن للعموم بما ان الدستور قيد البحث والتمحيص فعلى العموم ان يمتنعوا عن بث الدعايات والاجتماعات في هذه القضية للتضليل، وبما ان ذلك يؤدي الى الاخلال بالامن فكل من يتجاسر بمخالفة ذلك يعرض نفسه للعقاب الصارم"
مديـــري الامـــن العــــام
علي الخليفة - فهد السالم
ولم يكن الباعث على هذا الاعلان الغريب العجيب اللهم غير ورود مجلة السجل البصرية لصاحبها طه الفياض العاني وفيها مقال تناول اوضاع الكويت الاخيرة بالنقد، وعرج الى اطراء اعمال المجلس المنحل والظاهر ان المقال باجتهاد من صاحب المجلة نفسه وقد كان يجهل الظروف الحالية في الكويت لان نشر مثل هذا المقال في مثل هذه الظروف الدقيقة في نظر الوطنيين يخدم خصوم القضية الكويتية ولا ينفعها.
وقد صرح يوسف بن عيسى في جلسة المجلس هذا اليوم بما يأتي حرفيا:
"جاءني البارحة في منزلي فهد السالم الصباح وقال لي ان سمو الأمير أمرني ان ابلغك انه ما دام أمر الاجتماعات والدعايات متواصل فانه يضطر الى توقيف جميع الاعمال، وقد طلبت منه ان يبلغ سمو الأمير بما يأتي: "ما هي الاجتماعات التي تعنونها وماذا تظنون الغرض منها؟ اني اقول بلسان الجميع ان الحالة الماضية
(هذا الرأي من الشيخ يوسف سبق لنا ان عللنا اسبابه في حينه) أي قبل عهد المجلس الأول لا ترضي الكويتيين كما ان اعمال المجلس في اواخر ايامه ليست مرضية، لذلك فاني بصفتي وسيطا (من سوء حظ الكويتيين ان الشيخ يوسف وهو اكثر الفائزين باصوات الناخبين كان لا يدرك انه جاء الى المجلس بثقة الناخبين للدفاع عن حقوقهم لا حقوق الذين ينازعونهم عليها، فاذا اشتدت الازم وضع نفسه موضع الوسيط ناسيا صفته التمثيلية للامة وهذا هو الضعف الذي كان رفاقه يحاولون بكل وسيلة تخليصه منه ولكنه يتغلب عليه في الملمات) لا اقبل ما يخالف الحق".وزعت في هذا اليوم بالطرق عدة مناشير مخطوطة باليد تدعو الأمة الى الكفاح والمطالبة بالدستور بالفاظ عنيفة ولم يعرف مصدرها لان كافة أعضاء المجلس كانوا ينصحون الشباب من انصارهم بوجوب التزام السكوت والهدوء ريثما تتبين النتيجة.
يوم الثلاثاء 20 ذي القعدة 1357
تناول الأعضاء داخل المجلس في وجوب ذهاب يوسف بن عيسى الى الأمير ليعطيهم الكلمة الاخيرة عن الدستور، ولكن الشيخ يوسف حاول اقناعهم بالتريث ايضا فناشدوه الذهاب الى الأمير لانهم سئموا هذا التسويف المتكرر وجلوسهم كل يوم تاركين اشغالهم الخاصة على الكراسي الفارغة ومصالح البلاد يعبث بها المستبدون من الاطفال والجهلاء كأنهم خشب مسندة أمر لا معنى له فأولى بهم ثم أولى بهم ان يتخلون عن هذه الكراسي اذا كان هذا مدى نفعهم فيها للبلاد، وبعد تلكؤ شديد من يوسف بن عيسى واصرار منهم وافق المذكور على الذهاب الى سموه حالا وبعد مضي ربع ساعة رجع الى المجلس وهو يحمل هذا الجواب من سمو الأمير، "ليس لدي أي غرض من تأجيل الدستور وانما كنت ارغب في جلب صورة من دستور شرق الاردن لاني حسبما سمعت من رآه
انه انسب الى اوضاع الكويت من سواه، وقد ابرق القنصل في طلب تلك الصورة من شرق الاردن".ولم يعترض الشيخ يوسف بكلمة واحدة على هذا الرأي، وانما قال لهم انه قال للأمير انه لما كان تأجيل صدور الدستور ناشئ من سموكم وليس من المجلس فان الأعضاء يرون وجوب مباشرة المجلس اعماله الرسمية برئاسة رئيسه الأول، فرد عليه الأمير قائلا: "ارجوكم تتريثون مدة قليلة فقط".
هذا خلاصة ما رواه الشيخ يوسف الى الأعضاء عن نتيجة مسعاه مع الأمير وهو ينصحهم ايضا بالانتظار ريثما تصل النسخة المطلوبة من دستور شرق الاردن.
وقد استاء الأعضاء جميعا من هذه النتيجة وخصوصا ما ورد من الكلام عن دستور شرق الاردن، وقال اكثرهم نحن لا نقبل ان نفاتح في مضامين دستور شرق الاردن لاسباب اولا ان شرق الاردن تكاد تكون مستعمرة انكليزية خالصة والانكليز دخلوها محتلين بقواتهم العسكرية والكويت ليست كذلك. وثانيا اننا بصفتنا الهيئة التشريعية الأولى قد وضعنا دستور البلاد الذي طولبنا فيه كما رأيناه مناسبا لمصالح البلاد التي نمثلها فاذا كان ولا بد من حصول مناقشات من المرجع الاعلى على مواد الدستور فلتكن هذه المناقشات في حدود الدستور الذي تقدمنا به ونحن نقر الملاحظات المحقة عنه، اما دستور شرق الاردن فلا نقبل ان يرد له أي ذكر بيننا.
ولكن الشيخ يوسف وحده قال انه لا بأس من انتظار دستور شرق الاردن (فما كان فيه نافعا اخذناه وما كان غير ذلك ابيناه) وهذه العبارة كانت تتكرر من الشيخ يوسف في امثال هذه المناسبات بحيث اصبحت مشهورة عنه.
غير ان الأعضاء افهموه بعد لاي شديد قائلين: "اننا بقبولنا انتظار دستور شرق الاردن نقر مبدأ الاعتراف في مناقشته وهذه خطوة قد تجرنا الى اختلافات متكررة مع الأمير نحن في غاية الغنى عنها". ثم انتدبوا من بينهم محمد الأحمد الغانم ويوسف العدساني وكانوا الى ذلك اليوم من عداد المرضي عنهم من جانب الأمير (خصوصا لنصرتهم له في قصر دسمان) للذهاب الى سموه واقناعه بالعدول عن فكرة دستور شرق الاردن ومناشدته بسرعة تنجيز صدور الدستور المعروض.
وعادوا مساء يقولان انهما استطاعا التوضيح لسموه عن الفرق الكائن بين وضع الكويت ووضع شرق الاردن. وقال لهما انه لما لم يكن قد درس الدستور المقدم اليه درسا وافيا فلسوف يدرسه خلال اليومين المقبلين ثم يوضح لهما ملاحظاته حوله.
ملاحظة:
كما اظنه عن غاية الأمير من تطبيق دستور شرق الاردن هو ما نقل اليه من ان ذلك الدستور يعطي الحاكم الحق في تعيين نصف أعضاء المجلس التشريعي غير النصف الآخر الذين تنتخبهم الأمة، اما كلام الأمير الاخير عن عدم دراسته حتى الآن دراسة وافية للدستور المقدم اليه فأمر ظاهر البطلان.
يوم الاربعاء 21 ذي القعدة 1357
لم يحدث شئ ذو بال.
وصل الحاج محمد الثنيان الغانم الى الكويت قادما من الهند بالطائرة قبل نهاية موسم التمور لاهتمامه بتطورات الوضع الاخير في الكويت الذي كان يسأل عنه برقيا من الهند وكان المقرر الاحتفاء بقدومه حفاوة كبيرة من قبل الكويتيين لولا انه وصل نصف الليل من البصرة حيث انزلته الطائرة هناك.
يوم الاحد 25 ذي القعدة 1357
ذهب اليوم هذا بتفويض من المجلس كل من (محمد الأحمد الغانم ويوسف العدساني) بمؤآزرة يوسف الأحمد الغانم الى سمو الأمير، ولما قابلوه فاتحهم قائلا: "ماذا تريدون؟"
- "اننا قادمون بتفويض من المجلس لاستلام الدستور بناء على الوعد المتقدم من سموكم".
- فرد عليهم غاضبا: "لم يبق لكم عندي دستور ولا غيره".
ولما استوضحوا من سموه عن معنى هذا الغضب واسبابه، اجابهم قائلا: "اريد اولا ارى تلك المظاهرة التي ستقام غدا ونتائجها".
- "أي مظاهرة يعني سموكم، وليس ثمة ادنى عزم لدى الكويتيين من اقامة المظاهرات في الوقت الذي ما يزال ممثليهم يعلقون على سموكم احسن الآمال للوصول الى النتائج الحسنة، لا شك انما سمعتموه صادر عن اقوال المغرضين ودسائسهم وهم لا يهمهم الا احباط النتائج الطيبة ليستغلوا هم عواقب فشل الأمة في الاتفاق مع سموكم، واننا نؤكد لكم ان كل ما سمعتموه عن اقامة مظاهرة او غيرها ما هو الا محض افتراء".
وبعد ان اطمئن سموه الى كلام الوفد المرسل اليه قال لهم: "ان الدستور كان ناجزا اليوم صباحا ولكني سمعت بنبأ المظاهرة فأخرته عندي، ولكن اقول لكم الآن سأعرضه اولا على أفراد العائلة (يعني عائلة الصباح) ومتى فرغوا منه سأرسله الى المجلس".
- "هل نأتيك غدا؟"
- "لا سوف ادعوكم انا الى الحضور".
وقد كان ظاهرا من الاحتياطات المتخذة من جانبهم وتزويدهم كافة خدمهم ورجال الشرطة بالسلاح انهم كانوا مقتنعين من احتمال اقامة مظاهرة غدا احتجاجا على عدم انجاز الدستور، ولا شك ان ذلك كان ناشئا من دسائس المتربصين للامة بالشر ليفسدوا على الطرفين الجو الصالح للمفاوضات التي ربما واصلة الى نتائج يصح معها السكوت ولكن الصباح اصبح ولم ير الصباحيون شيئا.
كانت هذه حقيقة الحال الذي تردى اليه الوضع السئ بالكويت تسويفات عقيمة مستمرة من جانب الأمير وصمت مطلق مريب من قبل الانكليز وعبث مزري مشين بمقدرات البلاد على ايدي المهيمنين على دوائر الحكم في غير ما لياقة ولا حسن تورع، يسود كل ذلك جو من الوحشة والشكوك التي تغمر نفوس الجميع فلا سبيل الى التفاهم ولا حل صالح يرجى للبلاد.
ذلك ما كنا نستشفه نحن الخلان الثلاثة المتلاصقين عبدالله الصقر وعبداللطيف الثنيان وانا الذين كانت تجمع بيننا منذ دبيب الحركة الوطنية اواصر قومية متلاحمة من الالفة والثقة والتفاهم وكان هذا الاتحاد والتطابق النادر في الغايات والمثل القومية الصريحة بيننا نحن الثلاثة من الامور الملحوظة التي كنا وكان يطلق علينا من اجلها البعض بالثالوث وذلك بالنظر لشدة الروابط التي كانت تجمع بين ثلاثتنا في وحدة الرأي والغايات والمثل السياسية القومية يتمم بعضنا فيها نقص البعض الآخر ويستهدي بهديه في توافق والتئام تام.
كانت لنا طرقنا واساليبنا واجتماعاتنا الثالوثية الخاصة التي تتميز عما سواها من حركاتنا مع اصدقائنا الآخرين وتتمخض على الدوام بالغلبة والسيطرة في توجيه الافكار العامة مع التأثير المحسوس على آراء اصدقائنا من أعضاء المجلس وبالتالي على مقرراتهم الجوهرية لا سيما ما كان منها متصلا بالمبادئ والشئون القومية.
كنا نلتقي ثلاثتنا في دار احدنا، عبدالله الصقر على الأغلب، فنتداول في الامور الطارئة وغير الطارئة ونستعرض ما وصل اليه الوضع السئ في الكويت فلا نجد ثمة بارقة لحسن النية من جانب الأمير يصح ان نعلق عليها أي امل للوصول الى تفاهم محمود ينيل الأمة ما تصبو اليه نفوس الاحرار من بنيها ويفسح المجال للمخلصين ليواصلوا ما بدأوه في مجلسها الأول من اصلاح ونتاج محمود.
وانما كان كل ما في الأمر تسويفات ومماطلات صريحة مألوفة لا يتعلق بها الا الخائر الضعيف بينما كانت عناصر السوء والجهل والفوضى من الناحية الاخرى من الذين انيط بهم تصريف الامور تزداد عتوا وتطغى فيهم العنعنات الاستبدادية الكيفية يوما بعد آخر مما آل الى الاستخفاف المطلق بارادة الأمة والهزء من ممثليها بكافة دوائر الحكم ومالية الدولة يبعثرونها على مآكلهم واهوائهم هم وذلك الجيش الجرار من الخدم والاتباع الذين احاطوهم بانفسهم وجروهم لاذلال النفوس واهانة الاحرار حتى كان يتضاحك سفهاؤهم وهم يهمزون الطعام الدسم (كلوا من طعام الأمة لعن الله الذين لا عهد لهم في الأمة).
اما دوائر الدولة وموظفيها فاصبحوا جميعا هزء هازئ لا يعرفون كيف يسيرون مصالح الناس ولا الى من اليه يرجعون تسيرهم الرغبات الكيفية الخاصة من كل جانب ويتهددهم الطرد وربما الضرب في غير ما حق من كل جانب وقد دعى هذا الحال الشاذ بنفر من رفاقنا البارزين في المجلس التشريعي المشلول الى اليأس والنفور من الجلوس على الكراسي الخشبية دائبين كل يوم في انتظار الدستور الموعود في غير ما عمل مفيد ولا حل مرتجى في تقديم استقالتهم من عضويتهم فيه لا سيما وقد كانوا في شك من صراحة زملائهم الجدد الثلاثة الذين كانوا دعامة المعارضة في العهد الغابر، وعدم وضوح نواياهم معهم في العمل داخل المجلس وهم لهم صلتهم الوثقى بسمو الأمير منذ ايام المعارضة السالفة وانتصارهم له في دسمان.
أتراهم يؤثرون هذه الصلة الممتازة مع الأمير فلا يعرضوها للوهن بمهاجمة سموه في تلبية رغبات الأمة مترددين في الثبات مع اخوانهم متى اقتضى الحال ودعاهم داعي الوطن، ام تراهم يخلصون النية ويصرون على تأدية الواجبات المفروضة جادين غير هازلين ولا مترددين. ذلك ما كان يتشكك به بعض جماعتنا من أعضاء المجلس فيزيد في سئامتهم ويأسهم ويزهدون في ذلك الجو البغيض الذي حشروا فيه، ولكننا انا والصديق عبداللطيف الثنيان كنا نعرف عن هؤلاء الاخوان الثلاثة يوسف العدساني ومحمد الغانم ونصف اليوسف ما لا يعرفه غيرنا اذ كنا نتردد عليهم في منزل يوسف العدساني كل ليلة يجتمعون ونطيل الزيارة عندهم فنلمس فيهم من كثرة اختلاطنا بهم ومناقشتنا معهم حماسة طيبة للخدمة ورغبة خالصة في العمل ولو شابها في البداية شئ من التردد والغموض الا اننا كنا نلاحظ عليهم افراطهم الزائد بالثقة في اقوال الأمير وحسن نواياه ونحس انهم كانوا مخدوعين فيما يصفونه من قوة تأثيرهم على الأمير واستماعه لنصائحهم وحتى ليستطيعون توجيهه الى الوجهة التي يرونها بشئ من الكياسة وحسن التدبير. كنا نلاحظ فيهم هذا التوهم الذي عززه لهم حسن صلاتهم واخلاصهم الماضي منه ثم ما يظهره من حلاوة اللسان لهم وحرارة المجاملة وكثرة الايمان المغلظة التي لم يكن لها عند سموه من حد ولا ثمن. فكنا انا وعبداللطيف نلاحظ ذلك فلا نستطيع مصارحتهم فيه حذرا من جرح خواطرهم وتثبيط عزائمهم حتى اذا رجعنا الى اصدقائنا صارحناهم بما وصلنا اليه عن هؤلاء الثلاثة ثم جادلناهم بوجوب الصبر والتريث وارجاء استقالتهم الى الوقت الذي يحسن بهم تقديمها وقد كنا نلخص حجتنا اليهم في وجوب التريث بما يأتي:
1) ان هؤلاء الاخوان الثلاثة كانوا يعارضونكم في المجلس الأول لفشلهم في انتخاباته اما الآن وقد فازوا معكم بعضوية المجلس الجديد فانهم يطمعون ان يأتي اشتراكهم فيه بفائدة محسوسة يعتزون بها لدى الرأي العام. والا ثبت عليهم امام الناس انهم خلقوا للهدم ولم يخلقوا للبناء وهذا ما لا يحبونه لانفسهم.
2) ان هؤلاء الجماعة سادرون الآن بوعود الأمير وزخارف اقواله ولن يمضي عليهم طويل وقت حتى يتكشف لهم الأمر فيرتابون منه وتدب بينه وبينهم الوحشة كما ان الأمير من ناحيته مع مضي الايام سيضيق ذرعا بالحاحهم عليه ومطالبتهم اياه بانجاز الوعود فينفر منهم وتسوء بينهم الحال، فاذا قدر له ان ينكث فيما بعد بالعهود ويغدر فليكن غدره منصبا على الجميع لتصفى الأمة بعد ذلك وتبقى يد واحدة تسعى للجهاد ونيل الحقوق دون تخاذل ولا انقسام.
3) انكم اذا اسرعتم بنفض يدكم من العمل قبل ان تنفصم الروابط الحسنة القائمة بين الأمير وبينهم سارعوا الى ذب انفسهم في احضانه فيستعين بهم على ترقيع سير الاحوال من دونكم وبذلك تخسر الأمة غاياتها المثلي التي تظنونها لا تتحقق الا على ايديكم.
وبمثل هذه الحجج القوية كنا نجادل جماعتنا اغلب الليالي في جلساتهم الخصوصية غير الرسمية داخل المجلس الى ان عاد رفيقنا عبدالله الحمد الصقر من تغيبه في البصرة فكان رأيه بطبيعة الحال موافقا لرأينا واستطعنا اخيرا من القضاء على فكرة الاستقالة المختمرة لا سيما وان المفكرين بها ليس عندهم ما يعترضونه للعمل بعد تخليهم عن صفتهم التمثيلية اذ لم يكن بالكويت وهي البلدة الصغيرة الضعيفة الاهل سطوة بارزة من الرأي العام تهيب بالمسؤولين على احترام ارادته والحذر منه.
هذا ما وصلنا اليه داخل المجلس اما في خارجه فقد رأينا نحن الثلاثة فيما بيننا وجوب استصراخ من في العراق بعد ان قطعنا كل امل من اخلاص الأمير وحسن نواياه، وكانت حركتنا الوطنية في الكويت بطبيعة الحال متأثرة بالحركات القومية الاخرى المنبثقة من البلدان العربية الكبرى تستهدف مثلما تستهدف من غايات ومثل في سبيل انشاء الجامعة العربية الكبرى فمن المنتظر والحالة هذه ان يتتبع من في العراق حركات الكويت الاخيرة ويعطفون على جهاد الاحرار فيها ويؤازرونهم بما في مكنتهم من اساليب الدعاية والعمل التي سيكون لها ولا شك صداها العميق في آذان الانكليز والأمير مما قد يؤدي الى تقوية الصوت الوطني في داخل الكويت وتعزيز الحركة الوطنية وبذلك يعوض الوطنيون عن الضعف الذي في حالتهم ووضع بلادهم الشاذ. وهذا ما حدا بنا الى تحرير عدة رسائل الى كثير من المسؤولين وفيهم بعض أعضاء الوزارة السعيدية القائمة يومذاك وهم السادة طه الهاشمي وزير الدفاع والسيد رستم حيدر وزير المالية والسيد ناجي شوكت وزير الداخلية والذي كان يشغل يومذاك وزارة الخارجية ورئاسة الوزارة بالنيابة عن السيد نوري السعيد الذي كان متغيبا عن العراق في لندن لحضور مؤتمر فلسطين على رأس الوفد العراقي، وقد كان لهذه الرسائل وما تلاها من حركات اثرها البارز في تنبيه من في العراق الى ما يحسن بهم عمله كما سيأتي ذلك في حينه.
ولنعود الآن الى مذكرتنا اليومية كما جاءت.
يوم الاربعاء في 28 ذي القعدة سنة 1357
كانت الايام الماضية ايام شدة ووجوم، وكان رجال العائلة في حالة ضغط واذلال لنفوس الناس وبدأت بعض التهديدات والانذارات تسري الى بعض النواب الاضعف فالضعيف وارسل الأمير الى النائب خالد العبداللطيف الحمد يطلب منه تسديد اثمان التمور التي اشتراها من املاكهم في العام الماضي مع كلام قارص مهين. واخذ بعض الرسل وأذناب الحاشية يطوفون باشاعات الارهاب والتحذير ليخور من يخور من النواب فيؤثر الاستقالة حتى تتصدع جبهة المجلس ويتلاشى من فيه.
والانكى من كل ذلك ان منشورات بذيئة ضد بعض أفراد عائلة الصباح ومنهم الأمير نفسه اخذت تلقى في الشوارع بالظلام ولا شك ان كاتبوها من اسافل واخبث المفسدين الذين يريدون ايغار صدور العائلة الحاكمة على الغيورين من الكويتيين بحجة صدورها منهم وكنا نرجح ان محور هذه الدسائس الخبيثة هو ابن رجل كان رمز الفساد والافساد في الكويت ولكننا كنا نسخر من هذه الوسائل المنحطة مكتفين بالظن بان ليس من في الصباح من يصدق صدورها منا.
حضر المجلس هذا اليوم جميع الأعضاء ورجوا من يوسف بن عيسى الذهاب الى سمو الأمير ليأتي منه بالنتيجة الاخيرة عن الدستور، ولكن يوسف بن عيسى طلب منهم الانتظار ليومين آخرين، فاشمئز الأعضاء من هذا التماهل والضعف المستديم وزأر سلطان الكليب وقد وجدها فرصة محتجا على امهال يوسف بن عيسى طالبا الاستقالة وكان قد بدأ يظهر في الايام الاخيرة بمظاهرة مريبة وبدأ الأعضاء يتحفظون معه في اسرارهم، وبدر من خالد العبداللطيف الحمد كلاما يستشم منه الرغبة في الاستقالة ما دام هذا التماهل يتكرر، غير ان يوسف بن عيسى رد عليهما قائلا: "انتم في الحقيقة خائفين وترغبان في الاستقالة حبا في السلامة". وهنا حصل من بقية الأعضاء كلام واجبراهما على التريث.
ثم تكلم كل من يوسف العدساني ونصف آل نصف بكلام طويل لخصوه بان الأمر اليوم ليس أمر دستور وما الفائدة من الحصول على دستور في مثل هذا الجو المشبع بالشكوك والوحشة؟ وهل يمكن ان ينجز عمل ما دام سوء التفاهم قائم بين الأمير والمجلس؟.. اذاً فالأولى ازالة سوء التفاهم هذا قبل المطالبة بالدستور.. ورد الباقون مفندين هذا الرأي بان المجلس ليس مسؤولا عن سوء التفاهم هذا وما دام المحيطين بسموه اناس مغرضين مفسدين فلا يمكن احلال التفاهم المنتظر، وكلما صدر من المجلس الحالي أمر طلب اليه سن الدستور فنفذ المجلس هذا الطلب بمنتهى السرعة والاخلاص ولم يصدر منه ولا من واحد من اعضائه في هذا العهد الجديد اي عمل او قول يسئ الى التفاهم المطلوب وانما الأمير هو الذي يعد فيمهل ويتكلم فيخلف فمن الصالح توحيد الرأي والاصرار على المطالبة بالدستور اولاً وقبل كل شئ، وإلا تفرق رأينا وهان على غيرنا أمرنا.
واخيرا اتفق الجميع على المبادرة بذهاب يوسف بن عيسى الى الأمير ويصحبه الحاج محمد الثنيان ليشد ازر الشيخ يوسف ويحصلوا على نتيجة قطعية بشأن اصدار الدستور. ولكن الشيخ يوسف ابى ان يذهب معه الحاج محمد الثنيان قائلا -على عادته المتكررة-: "اني اذا كنت وحدي تكون لي حرية وافية في الكلام" فوافقوه مضطرين وانفضوا على هذا الرأي.
يوم الخميس 29 ذي القعدة سنة 1357
بلغنا هذه الليلة ان (سلطان الكليب) ذهب فور انفضاض جلسة المجلس التشريعي يوم امس الى قصر دسمان وقدم الى الأمير استقالته التي كان يجب تقديمها الى رئيس المجلس التشريعي كل ذلك تزلفا الى الأمير، ولم يكن هذا الأمر غريبا من سلطان فتاريخه مملوء بالتقلبات، بيد انه في هذه المرة كشف سريرته للملأ واصبح مضغة في افواه الناس، اما أعضاء المجلس فقد تنفس جميعهم الصعداء بابتعاد رجل مريب محسوب منهم وهو عليهم، ولقد كان هذا الرجل في بداية تأسيس المجلس التشريعي الأول عندما كان هذا يهيئ نفسه لتولي احد الوظائف الرئيسية بواسطة أعضاء المجلس التشريعي والأعضاء يلاطفونه ويدارونه بغية استقرار الامور وكان يلتفت عليهم مهددا وهو يشير بيده الى سارية القنصلية البريطانية مرتين في مكانين مختلفين قائلا: "انا لي سند انظروه والله اهدمكم".
وقد تغاضى عنه الأعضاء في المرة الأولى حذرا من الانشقاق بينهم وهم في مستهل حياتهم الانشائية والمشاكل تزرع في طريقهم من كل جانب، بيد انه لما كررها في المرة الثانية صاح بوجهه عبدالله الصقر قائلا: "اتهددنا بالخيانة، ان توقيعاتك محفوظة لدينا". فخنس.
وحدثني ذات مرة في ايام المجلس التشريعي محمد الأحمد الغانم في معرض عتاب جرئ بيننا على موقف المعارضة الذي كانوا يتخذونه هو ورفاقه الآخرون قائلا: "ان سلطان الكليب الذي تظنونه منكم حاولني مرارا انا ويوسف العدساني في جلساتنا الخصوصية التي يحضرها عندنا متكتما عنكم ان نتحالف واياه مقسمين على هدم المجلس التشريعي، ولكننا قلنا له: ان غايتنا خدمة البلاد وحدها ولا شأن لنا بالاحقاد". وقد وضحت الى محمد اننا لا نجهل حركات سلطان وان كنا لم نشأ الجهر بذلك حرصا على سمعة المجلس ووحدته، اما الآن فأؤكد لكم ان سلطانه أو أقواله وأعماله لم يعودا بذا اثر في تقرير سير الامور.
هذا ما كان من شأن سلطان اما خالد العبداللطيف الحمد فكثرت عليه رسل الأمير طالبين منه اما الاستقالة من المجلس التشريعي او تسديد دين الأمير عليه البالغ (39) تسعة وثلاثين الف دفعة واحدة فورا، فكان جوابه الاخير لهؤلاء: "لقد قارنت في نفسي بين السجن او النفي بل وحتى المشنقة وبين تقديم استقالتي من المجلس والغدر برفاقي، فوجدت ان كل شئ هين ولا خيانة رفاقي". وسدد الطلب المذكور فورا وبذلك ابرز الرجل الابي في آخر لحظة منتهى الشرف والسمو.
اما العضو الجديد مشاري بن هلال المطيري وهو اكبر انجال مثري الكويت الكبير هلال بن فجحان المطيري صاحب القصة المشهورة مع الشيخ المرحوم مبارك الصباح، فقد ارسل الشيخ علي الخليفة الصباح احدهم اليه ناصحا اياه بالتخلي عن أعضاء المجلس لان روابطهم اي الصباح كما يقول الشيخ علي مع والده هلال قديمة وهو يعد ولدا لهم، غير ان الشاب الشهم مشاري رد عليهم قائلا: "انا مع الجماعة على الخير والشر ولا سيما وان الحق في جانبهم فليعمل علي ما يريد".
وبهذه الروح السامية ابرز الرجال الاحرار صحة عقائدهم ومتانة خلقهم الوطني. وعندما تكامل عقد الأعضاء في بناية المجلس التشريعي صباح اليوم طلبوا من يوسف بن عيسى الذهاب الى سمو الأمير كما كان متفقا عليه يوم امس فذهب المذكور الى قصر الأمير الساحلي بينما بقي جميع الأعضاء في مقرهم في انتظار النتيجة، غير ان يوسف بن عيسى لم يجد الأمير في قصره الساحلي وهذا خلاف المعتاد لان سموه عندما فهم ان يوسف بن عيسى سيواجهه هذا اليوم تعمد ترك مجلسه المعتاد وذهب الى (الصفاة) حيث يجلس قليلا عند محل آل الغانم التجاري كل يوم بعد انصرافه من مجلسه، ثم ذهب الى دسمان فاستقل يوسف بن عيسى سيارة اوصلته الى دسمان وبهذا طالت مدة الانتظار على الأعضاء فتفرقوا على ان يحضروا ثانية الى المجلس في الساعة التاسعة غروبية من ذلك اليوم ليسمعوا من الشيخ يوسف ما حصل بينه وبين الأمير.
وفي الوقت المعين تحدث الشيخ يوسف على الأعضاء قاصا عليهم ما حدث بينه وبين الأمير وهذا فحوى كلام الشيخ يوسف بالدقة آثرنا نقله بلهجته العادية:
(لما طلبت من الأمير الدستور اجابني: "ان الدستور حاضر غير ان دكوري (اي الكابتن دكوري قنصل بريطانيا في الكويت) كان طالبا مني عرضه عليه قبل اصداره لكم، والمذكور الآن راح الى القنص وسيرجع بعد يومين، وعندما اعرضه عليه سوف اعرضه عليك"، فسألته: "هل تعرضون علي الدستور الذي قدمناه لكم مع ملاحظاتكم عليه؟"، اجابني: "لا، كنت منتظر وصول دستور شرق الاردن ولكن لما وضح لي بعض الأعضاء ملاحظاتكم على دستور شرق الاردن وضعنا دستور جديد ليس فيه الا العدل، وحتما ستوافق عليه وسيوافق عليه غالبية أعضاء المجلس لان كلما فيه عدل كما بينت لك، ولكن الذي سيعترض عليه ثلاثة أعضاء
(المرجح انهم سليمان العدساني، السيد علي السيد سليمان، مشعان الخضير الخالد) وانا اعرفهم وافيدك ان المجلس بوجود هؤلاء الثلاثة أعضاء سيكون كالمجلس السابق والعمل صعب معهم"، فاجبته: "الجوهر معروف الناس يريدون المالية يصرفونها على الوجه المطلوب، ثانيا توسيع المعارف، ثالثا صلاح الاحكام وان يكون الحكم دستوري، واما من جهة الثلاثة انفار افيدك انك بين ثلاث حالات ما هنالك رابع لها، الحالة الأولى: ان يرجع الحكم كما كان اولا قبل عهد المجلس الأول فهذا انا افيدك بلسان الجميع انه ما يوجد هنالك صغير ولا كبير يرضى بهذه الحالة الآن لان في القديم كان الصباح على عهد جراح عبارة عن رؤساء قبيلة وكان جراح من تواضعه ينطر شعير اهل الكويت بنفسه، اما الآن وقد شاعت المجالس في كل مكان فلا يمكن ان يرضى احد بالاستبداد السابق، واذا أحببت تنفيذ ذلك بالقوة فعواقب هذا الرأي، إما ثورة يتدخل فيها الأجنبي او تنتصر والناس يغادرون الكويت خصوص أصحاب المصالح الكبيرة وتتضرر البلاد . الحالة الثانية: اذا اعتمدت حل هذا المجلس واجراء انتخابات جديدة ثالثة فأعلم اني كنت اظن انه في الانتخابات الاخيرة هؤلاء المذكورين ما ينجحون ولكنهم نجحوا وحصلوا على اصوات كثيرة لهذا انا واثق انهم سينجحون في المرة الثالثة في الطليعة.الحالة الثالثة: ان تعتمد اخراج هؤلاء من المجلس وتضع غيرهم محلهم فهذا ايضاً غير جائز لان هؤلاء انتخبتهم الأمة واصبح لهم حق بالعضوية ولا يمكن ان يرضى احد بهذا العمل إلا من ليس له ضمير
(لقد قبل الشيخ يوسف مع الاسف الجلوس بعد ذلك مع اناس ليسوا على شئ من (..) في المجلس الشوري) ويعرض نفسه الى كره الناس واذا اعتمدت ان تأتي بناس ما لهم ضمير في المجلس فهؤلاء يكونون خراب على الكويتيين ولا يرتاح من وجودهم احد. فرد علي الأمير قائلاً: "على كل حال سأعرض الدستور على دكوري ثم اطلعك عليه"، وخرجت من عنده على هذا القول).هذا هو عين كلام الشيخ يوسف دونته في مذكراتي كما جاء بلهجته العادية وتعليقي عليه:
أولاً
ان الشيخ يوسف سامحه الله تناسى ما كان يجب عليه بل وما وعد به عن الدفاع عن الدستور الذي سنه المجلس وقدمه الى الأمير كما اكد عليه ذلك يوسف العدساني بوقته، بل انه لما سأله يوسف العدساني: "اين وعدك لنا حين اشهدت على نفسك انك ستدافع عنه دفاعك عن نفسك؟"، رد عليه قائلاً: "وماذا يضرنا ان نطلع على دستور الأمير فما كان منه نافعاً قبلناه وما كان غير ذلك رفضناه" -وهي عبارته الضعيفة المتكررة التي اصبحت مضرب المثل بين أعضاء المجلس-.ثانياً
حصر الشيخ يوسف مطالب الأمة بالمالية والمعارف واصلاح الاحكام وجعل الأمر شورى متعمداً اغفال حق المجلس في الاشراف على كافة المعاهدات السياسية والاتفاقات او الامتيازات الخارجية وابرامها كما نصت على ذلك المادة الثالثة من قانون صلاحية المجلس وهي الوثيقة الأولى التي فازت بها الأمة في مطلع حياتها التشريعية مجارياً بذلك رغبات خاصة لاحت نذرها من جانب الأمير، أما تعبيره بجعل الأمر شورى فأمر مفهوم في هذه المناسبة لان الحكم الشوري غير الحكم النيابي والفرق بين الاثنين ظاهر.والأنكى من كل ذلك ان الدستور الأميري الجديد صيغ باجتهاد ومعرفة خالد الزيد المعروف، وعزت جعفر نفاية الفنادق في بيروت، ففي أي عرف من بلاد الدنيا يضع مثل هؤلاء الخارجين والمشبوهين دستور البلاد بينما يحرم من ذلك أعضاء المجلس التشريعي وهم اصحاب الحق الأول فيه، ويغفل الدستور الذي وضعوه بدون أي حجة مبررة.
يوم الجمعة 30 ذي القعدة سنة 1357
اليوم هذا كتب الأمير كتاباً الى عبدالله الحمد الصقر يطلب منه تسديد ما عليه من الديون القديمة لآل الصباح وهو يجاوز الثمانين الف ربية، والمراد بذلك احراج الأعضاء بكافة الطرق الممكنة ولكن ثبت ان روحية الأعضاء كانت أصلب منها في أي وقت مضى وان مثل هذه الامور العارضة لن تزيدهم من مطالب الأمة وكسب الحقوق إلا ثباتاً وتصلباً. فقد دفع عبدالله المذكور ديون الأمير في اليوم التالي فورا، والظاهرة العجيبة هذا اليوم ان سلطان الكليب على اثر انتشار خبر استقالته قاطعه اكثر الناس حتى ألصق أصحابه به، وهو يحاول الاتصال ببعض الشباب ليشكو إليهم هذه الجفوة التي لا يستحقها منهم، ويدافع أمامهم عن نفسه مبرراً تقديم استقالته بقوله: "انه كان يطالب بشدة بالمطالب الوطنية وعدم الصبر على التسويفات"، بينما ذهب من الناحية الثانية الى الشيخ علي الخليفة وقبل رأسه، وكان يجلس عند الذين لهم صلة بالأمير ويقول لهم: "اني استقلت من المجلس لعدم موافقتي لهم على التشدد الذي يبدونه مع الأمير"، فأي عقلية غريبة يحملها هذا الرجل المكشوف ويعتقد انه يستطيع اللعب فيها على الحبلين..
يوم الاحد 2 ذي الحجة سنة 1357
فصل الحاكم بأوامر شفوية الشاب النزيه (أحمد بن بشر الرومي) أمين صندوق جمرك البر المعين من قبل المجلس التشريعي الأول ومحمد بن عبدالعزيز القطامي رئيس حرس الجمرك النشيط، كما أمر مدير المالية بعدم دفع راتبينا عن الشهر المنصرم أنا وأحمد السرحان بدون ذكر الأسباب، وصدر كتاب أميري بتعيين حمود الجابر الصباح أخو الحاكم بدلاً من عبدالله الجابر لرئاسة البلدية.
يوم الثلاثاء 2/3 ذي الحجة سنة 1357
لما ذهبت الى المجلس كالعادة بلغت أنه ألقيت عليه من الساحل لفافة مكورة مشعولة ومبللة بالنفط وفي داخلها رصاصة حوالي منتصف ليلة البارحة، فبادرها فراش المجلس والحارس الخاص وأطفأوها ولم يستطيعوا ادراك الفاعل، وان كانو سمعوا دبكة هروب مما يدل على انهم كانوا اكثر من واحد.
قدمت شكاية هذا اليوم ضد الشاب سليمان نجل السيد علي السيد سليمان، وعبدالوهاب عيسى القطامي، مدير البلدية القائم من قبل خباز زعم انهم اعتديا عليه يوم المظاهرة الكبرى، والمفهوم ان الخباز حرض تحريضاً على الشكوى، غير أن رئيس المحكمة لم يجد دلائل للإدانة وبرأ المتهمين.
وعلى اثر توالي أمثال هذه الحوادث الدالة على التحدي، أصر أعضاء المجلس على وجوب ذهاب كل من يوسف العيسى، ومحمد الثنيان، ويوسف العدساني إلى الأمير واعطاء الكلمة الفاصلة، فإما مجلس معترف به ويسير في أنظمته لانتشال البلاد من هذا التخبط الذي تسير إليه، أو لا، ويصدر ارادته بحل المجلس. وبعد مضي ما يقارب الساعة رجع هؤلاء وهم يحملون حسب زعمهم وعوداً طيبة وأن المجلس لن يحل، وأن الأمير في انتظار عودة القنصل من القنص كي يعرض عليه الدستور ثم يبعث به الى المجلس. وقد فاتح محمد الثنيان سمو الأمير طالباً إليه موافقته على دعوة أفراد العائلة الحاكمة وأعضاء المجلس إلى وليمة تقام في بيته لإزالة سوء التفاهم الموجود بين الطرفين، غير أن الأمير أجابه: "اني أرى ان يكون ذلك بعد الاتفاق على الدستور.. وأنا أمثل جميع العائلة ولا حصل منهم شئ إلا بعلمي وبعد مراجعتي..".
وهكذا عاد الوفد الموفد بدون نتيجة مضمونة.
وحضر الى قاعة المجلس صباح السالم الصباح واستنطق خدم المجلس واخذ افادتهم حول اللفافة المشعولة.
يوم الاربعاء 3/4 ذي الحجة سنة 1357
كنت امس قد ذهبت بجوازي لأخذ الكتاب المعتاد من مأمور الجوازات المحلي الى دائرة القنصلية الانكليزية حيث كنت اتوسم حصولي على بعض الفرص للسفر الى البصرة بمناسبة ايام عيد الاضحى، وقد سلمني المأمور عبدالعزيز بودي جوازي مع الكتاب المطلوب، وقد فهمت البارحة ان المذكور جاء الى دارنا مرتين متواليتين يطلب مواجهتي، ولما جاء صباح اليوم عندي في مكتب المجلس أبلغني انه صدر إليه أمر كتابي بتوقيع فهد السالم عن أمر الأمير بمصادرة جوازي، فطلبت إليه إبراز الأمر المذكور، فسألني أن أذهب معه إلى فهد السالم لأن الأمر تركه في المكتب، ولما قابلت فهد السالم وسألته عن حقيقة الأمر، أجابني بخشونة: "الأمر صحيح إذا عندك مراجعة راجع". فاكتفيت بهذا القول وسلمت الجواز الى المأمور.
وقد بلغني الشيخ يوسف بن عيسى أنه حادث فهد السالم بهذا الأمر فرد عليه المذكور قائلا: "ان خالد العدساني وأحمد السرحان مفصولان من سكرتارية المجلس بأمر سمو الأمير، أما مصادرة الجواز فبأمري ريثما ينتهي التحقيق بحادثة اللفافة المعلومة".
ومعنى هذا انهم يوجهون الينا التهمة بأمر اللفافة المشتعلة. ألا ليت شعري أي فائدة تراهم يظنون انها تعود علينا من تدبير مثل هذا العمل الاجرامي الصبياني؟
يوم الخميس 4/5 ذي الحجة سنة 1357
فتحت جلسة اليوم وتكلم يوسف بن عيسى قائلاً: "بلغني أمس الشيخ عبدالله السالم -رئيس المجلس- ان خالد العدساني وأحمد السرحان مفصولان من سكرتارية المجلس وان الاوراق الرسمية التي في حوزتهما يستلمها عبدالله السالم، وان الأمير يرى انه ما دام الدستور لم يعرض بعد فلا حاجة لمواصلة جلساتهم داخل المجلس خصوصاً وانه قد تحصل بأسباب جلوسهم فيه حوادث من قبيل ما حصل في حادثة اللفافة المعروفة.."
وقد اندهش الأعضاء لهذه الاوامر الشاذة الغريبة واستنكروا صدورها لانها تجاوز من الأمير لا يستند على اساس صحيح مبني على الحق، فقال يوسف بن عيسى: "إن الأمير يقول ان خالد العدساني هو المحرض علينا في حوادث قصر نايف، وأما أحمد السرحان فلأنه سكرتير لكتلة الشباب".. فزاد استنكار الأعضاء لهذه التبريرات الواهنة، وقال عبدالله الصقر: "أما حوادث نايف فاني أول المحرضين فيها، ثم لقد سمعنا منك يا شيخ يوسف انك تفاهمت مع الأمير على وجوب نسيان الماضي برمته، فكيف يُحاسب الآن هؤلاء على شئ أسدل عليه الستار، ولماذا يفرد هؤلاء بمسؤولية اشتركت فيه غالبية الأمة؟".
فكان رد الشيخ يوسف على ما تقدم: "يجب الخضوع للأمر الواقع".
وتكلم الأعضاء بعد ذلك وعلى رأسهم السيد علي قائلين: "ان أوراق المجلس باقية فيه وهي لا تخرج إلا بخروجنا منه، واما نحن فباقون هنا بحق الأمة وارادة الأمير الناطقة بانتخابات المجلس فإذا كان لدى الأمير أمراً آخر، فليصدر إلينا إرادته بحل المجلس أولاً فاننا هنا جالسون بحكم القانون". واقترح يوسف العدساني، ونصف اليوسف اتخاذ حل وسط وهو ان يكتب الأمير الى المجلس بتأجيل اجتماعات المجلس ريثما يصدر الدستور، غير ان الفريق الاكبر من الأعضاء نادوا بخطأ هذا الرأي، موضحين ان عاقبة التأجيل الغير مسمى سيكون أمراً سيئاً للغاية إذ هي مدعاة لاهمال دعوة المجلس بتأجيل عرض الدستور سنة أو سنتين كما تقضي بذلك سياسة المطل والتسويف المتوالية لا سيما وان الدلائل كلها تشير على عدم حصول الرغبة الحسنة في تلبية رغبات الأمة إلا باحتمال تضافر وحدة
الرأي والاصرار من زعمائها. وان في تأجيل المجلس بعثرة لكيانه المعنوي، وتفرق الأعضاء كل إلى حال سبيله، وهيهات ان يقام لهم وزن أو يعتد بهم وهم متفرقين في الحين الذي يجابهون بالتسويفات والاعذار الواهية وهم مجتمعون دائبوا المطالبة والإلحاح على نيل الحقوق. فقال نصف اليوسف: "الذي أراه أن لا نفرط فيما هو جوهري بالتمسك فيما ليس بالجوهري إذا كان اصرارنا على مواصلة جلسات المجلس يضيع علينا المجلس بكامله فالأولى ان نتسامح فيها، يا جماعة ان القائد أو الرئيس في الحرب يتخذ لكل حالة لبوسها كراً وفراً".وقال يوسف العدساني: "إني أقترح أن يكتب الأمير إلينا كتاباً بتأجيل الاجتماعات ريثما يعرض الدستور"، وتكلم مشعان الخضير مؤيدا اقتراح يوسف العدساني ولكنه دعى الى تحديد التأجيل لايام معدودة، ورد على كلام نصف في حديثه عن سياسة الكر والفر قائلاً: "نحن في الواقع منذ جلسنا في هذا المجلس ما كررنا قط بل كنا نفر على الدوام..".
وتكلم سليمان العدساني قائلاً: "إننا ما زلنا نتحدر عن حقوقنا وصلاحياتنا الشرعية درجة فأخرى باسم الحكمة والتريث حتى وصلنا الى القاع، كنا طولبنا بسن الدستور مع الاشتراط علينا ان لا نزاول أي عمل من صلاحياتنا قبل ذلك، فلما اعترضنا على قبول هذا الشرط الخطر اقنعتونا بالصبر واستعمال الحكمة، فجلسنا جلساتنا اللازمة لسن الدستور وقدمناه كاملاً معتدلاً كما طلب منا وطلبنا العمل فمنعنا عنه، فلما طلبنا مراجعة الأمير جميعاً في ذلك ابيتموها علينا
(يشير الى يوسف بن عيسى الذي كان يشور عليهم بالتأني والاقتصار عليه وحده لمفاوضة الأمير) ثم اخذوا يتدرجون في سياسة المطل والتسويف، ثم إلى العبث بالمقدرات وشؤون الدولة وهاهم الآن قد بدأوا في سياسة فصل الموظفين البعيد فالقريب، حتى وصلوا إلينا في فصل موظفي المجلس، بل هاهم يطالبوننا الآن حتى بتوقيف جلساتنا المشلولة هذه، فإلى متى هذا التباله؟ نحن خاضعون لسلطان أحمد رضينا أم كرهنا ما في ذلك من شك فإذا كان أحمد يريد حل المجلس بالكتابة صراحة فإنا مقيمون هنا بحكم القانون".وصاح عبداللطيف الثنيان منفعلاً: "يا شيخ يوسف نحن اقتفينا سيرك هذه المرة منذ حللنا في هذا المجلس وانقدنا إلى جميع آرائك ومقترحاتك لئلا يحدث بيننا وبينك أي انشقاق فتوجه إلينا اللوم وتشهر بنا أمام الناس كما جرى لنا معك في المجلس الأول، لقد سايرناك في سياسة التأني والاستسلام حتى جُردنا من كافة الحقوق والصلاحيات وأنا على يقين أنه ما دامت هذه خطتنا التي هي خطتك فاننا لن ننال شيئاً بل نخسر كل شئ وحتى كرامتنا فإلى متى نبقى على هذه الحال؟".. فاحتج عليه الشيخ يوسف لقوله (إننا نقتفي اثرك)، قائلا: "كلا انتم لا تقتفون اثري وانما هذه آراء وافكار نتراجع معكم فيها ونقررها بالاكثرية".
فاعترض اكثر الأعضاء على قول يوسف بن عيسى (بالاكثرية) وجعلوا يذكرونه بجميع اقواله وتهكماته فيهم وكيف انه في الاخير كان يفرض عليهم آراءه فرضاً ويأبى عليهم مواجهة الأمير مجتمعين بل يصر على الذهاب إليه وحده، وينذرهم أنه لن ينقل إلى الأمير من أقوالهم وآرائهم إلا ما يوافقه منها، أما التي يرونها بالاكثرية ولا تعجبه هو فانها على قوله لهم لا تهمه، وقد صرح لهم ذات مرة مهدداً انه إذا لم توافقه بعض آرائهم حتى ولو كانت صادرة بالاجماع فانه ينسحب منهم.
ثم حصل نقاش جديد لاخذ الاصوات حول الموضوع ثار خلاله فجأة كل من يوسف العدساني ونصف قائلين كمن يهددا بالانسحاب: "نحن نصارحكم القول بان رأيكم هذا -أي الاصرار على مواصلة الجلسات- لا نقبله ابدا
(مما يلقي بعض الضوء لتفسير هذا الموقف ما رواه لي يوسف العدساني بعد هذه الحوادث عن ترجرج نصف خلال هذه الفترة وانهما أي يوسف ومحمد الغانم كانا يشدان عزم نصف على عدم التفريط بكرسيه في المجلس، فلما طلب إليه الأمير بعد ذلك تقديم استقالته من المجلس تردد في ذلك، كما روى لي أيضاً انه أي يوسف العدساني أراد ان يجس نبض الأمير خلال هذه الفترة من موقفه من المجلس، فقال له : "انه يضع استقالته من المجلس بين يديه"، ولكن الأمير اكتفى بشكره فقط).واخيراً عادا الى الجلوس بعد ان هدأهما الباقون واتفق الجميع بالنظر الى غموض أقوال الأمير على أن لا يقبلوا بأي كلام شفهي من سموه، فاذا كان لدى الأمير ما يريد ان يطلبه منهم فليحرر اليهم ذلك كما تقضي به الاصول، وحتى موظفي المجلس فليصدر سموه ارادته كتابةً في فصلهم. ثم رأى الجميع ان من الصالح أن أسلم كافة أوراق المجلس إلى عبداللطيف الثنيان فسلمتها اليه وانفض المجلس بعدها.
استدراك
:- جاء في اقوال يوسف بن عيسى في معرض الدفاع عن نفسه في جلسة هذا اليوم ما يأتي: "الفرق بيني وبينكم هو أني إذا لم يمكن الحصول على القرص (أي الرغيف) كله اكتفي بنصفه أما أنتم فتصرون على طلبه كاملاً".وهذه أيضاً من الأقوال الدارجة على لسان يوسف بن عيسى والتي ربما كانت تصور جزءا من الحقيقة أما جزؤها الآخر ان نصفة رغيف الشيخ يوسف هذا أو قرصه كما يقول ليس له حد محدود، فهو إذا لم يتحصل على نصف القرص يكتفي بربعه أو بسدسه أو بثمنه، وهكذا إلى درجة الصفر، لأن الاصرار على طلب جزء من حق الأمة من صاحب السلطان ليس عنده من أصالة الرأي وانما في نظره ان أمثال هذه الأمور تنال فقط بالاستعطاء والتودد لأنها ليست حقاً من حقوق الأمة، بل هي منحة يتصدق بها صاحب السلطان، وهذا من أفدح وأنكى ما تصاب به جماعة تنقاد إلى رجل بهذا الرأي.
وأما أعضاء المجلس أو رجاله البارزون، فانهم لم يخامرهم الشك في خسارتهم للقضية وأنهم قد وصلوا أخيراً إلى حد من الهوان والضعف يستحيل معهما في الحصول على أية نتيجة يصح التسليم بها، غير أنهم وقد يئسوا من النتيجة تماماً، فضلوا الاستمرار على الجلوس لعلهم يصلوا بالشيخ يوسف إلى الحد الذي يغضب معهم فيه، فيثور واياهم على هذا العبث المتكرر ليخرجوا جميعا الى الأمة وهم كلمة واحدة ورأي موحد ولكن مع كل اسف فانهم قد اوصلوا بانفسهم الى الحضيض ولم يصلوا بالشيخ يوسف الى ما يتمنون، لأن المذكور لم يتلاشى قرصه بعد، والظاهر انه لن يتلاشى إلى ما شاء الله.
يوم الجمعة 5/6 ذي الحجة سنة 1357
اجتمع الأعضاء اليوم في ديوان الصقر لان اليوم كان يوم جمعة وقد بلغهم يوسف بن عيسى الذي قابل الشيخ عبدالله السالم أن الأمير أصدر كتاباً إلى الاخير بصفته رئيس المجلس يطلب فيه منه توقيف جلسات المجلس لحين صدور الدستور، ثانياً تسليم كافة الأوراق والدفاتر الرسمية الموجودة بالمجلس وارسالها إلى دائرة الأمير.
فاندهش غالبية الأعضاء من مضمون هذا الكتاب ووجدوا فيه ما يقضي على المجلس بالموت المؤكد فقد كانوا في الامس يمانعون من تسليم الاوراق الى عبدالله السالم وهو الرئيس الحقيقي للمجلس أما اليوم فانهم يطالبون بتسليمها إلى دائرة الأمير ومعنى هذا عدم التفكير في دعوة أي مجلس كان في المستقبل، فحاول بعضهم الاتفاق على مقابلة الأمير فلما لم يفلحوا نادوا بوجوب الرد على كتاب الأمير وتبليغه عدم وجود أي ضرر من مواصلة المجلس العادية مع بقاء اوراق المجلس فيه ما دامت النية معقودة على عرض الدستور عند رجوع القنصل الى الكويت، غير أن الشيخ يوسف كان يعترض ويمانع في كل شئ وأخيراً وبعد انفضاض الجلسة أوفدوا إليه محمد الأحمد الغانم فذهب اليه في بيته وحاول بكل لطف على الاقتناع بلزوم الاجابة على كتاب الأمير فلم يقبل ولم يقتنع محتجاً بقوله: "اننا كنا قد اتفقنا امس على ان يكتب لنا الأمير بما يريد وقد كتب لنا فوجب ان تنتهي المسالة عند هذا الحد..".
يوم السبت 6/7 ذي الحجة سنة 1357
حضر اليوم كافة الأعضاء الى المجلس وأخرج يوسف بن عيسى الكتاب الذي صدر من سمو الأمير يوم أمس وهذا نصه:
حضرة الاخ العزيز عبدالله السالم الصباح رئيس المجلس التشريعي
السلام عليكم ورحمة الله
بما ان القانون الاساسي لم يصدر حتى الآن فعليه نأمر بما يلي:
اولا - وقف اعمال المجلس التشريعي لحين صدور القانون موقعاً عليه منا.
ثانيا - تسليم جميع الاوراق الرسمية وكتب المعاهدات والامتيازات والدفاتر الرسمية الموجودة في المجلس وارسال كل ذلك الى دائرتنا.
ثالثا - عليكم العمل بتنفيذ أمرنا هذا حال استلامه ودمتم،
أخيكم
6 ذي الحجة سنة 1357
أحمد الجابــر الصباح
وبعد محاورات ومشاورات كثيرة اقتنع الجميع على تحرير الكتاب الوارد نصه فيما بعد والتمسوا من يوسف بن عيسى حمله الى الأمير جواباً على الكتاب الذي حمله منه اليهم فامتنع المذكور عن ذلك، فأخذه مشعان الخضير وسلمه الى عبدالله السالم، ولما قرأ الأخير فحواه أبى حمله إلى الأمير ولكن بعد محاولات وتشجيعات متعددة قبل ان يذهب به إلى الأمير وهذا نص الجواب المذكور:
رقم 220
صاحب السمو الشيخ أحمد الجابر الصباح المحترم،
إشارة الى كتابكم الذي باسم رئيس المجلس التشريعي الذي تأمرون به توقيف جلسات مجلس الأمة مع تسليم الاوراق، فاجابة نود أن نحيط سموكم علماً بأن معنى توقيف جلسات المجلس وتسليم السجلات هو حل المجلس، الأمر الذي لا نرى له مبرراً ولا داعياً اذ ليس هنالك أي ضرر ينتج من استمرار جلسات المجلس مع العلم بانه لن يزاول أي عمل إلا بعد الاتفاق على الدستور كما كان الاتفاق مع سموكم، الأمر الذي نؤمل الوصول اليه مع سموكم والله يحفظكم،
7 ذي الحجة سنة 1357
أعضاء المجلس التشريعي
يوم الاحد 7/8 ذي الحجة سنة 1357
ليلة الاحد ارسل سمو الشيخ سيارة الى يوسف بن عيسى يطلب مقابلته في قصر دسمان بعد العشاء فذهب المذكور اليه وجرى بينهما كلام طويل خلاصته كما رواها يوسف بن عيسى للأعضاء:
(بادرني سموه: "ما معنى هذا الكتاب؟" -يشير الى كتاب أعضاء المجلس-، فأجبته: "هذا جواب كتابك".
- "حسبما فهمت منك انكم طلبتم مني أن اكتب لكم بما أريد، وقد حررت لكم أمس كتابا ضمنته ما سلف لك الكلام عنه، فالمسألة تكون منتهية".
- "الجماعة طلبوا مني فقط ان أوضح لك بان تكتب لهم جميعاً ما تريد ان انقله لهم لكيلا يحصل تحريف في الكلام الشفهي ولم ينصوا على ان تكتب لهم تلك الفحوى".
واخيراً بعد نقاش تحمس الشيخ يوسف قليلاً فيه، وافق الأمير على استمرار جلسات المجلس وبقاء اوراقه فيه).
يوم الاثنين 10 ذي الحجة سنة 1357
حيث عيد الكويتيون فيه قبل أهل مكة بيوم واحد .في عصر هذا اليوم أخذت -العرضات- عادتها ولكن الغريب ان العجم فاضوا على الأسواق ومعهم بعض الأسلحة وكثير من المسدسات في شكل هوسة، وكانوا يهوسون ببعض هوسات ملقنة لهم وكانوا يطوفون بقصر نايف ومقر الشرطة فمديرية الأمن العام التي يشغلها الشيخ علي الخليفة الصباح وكانت بعض هوساتهم هكذا:
(غص بيها الما وقعها) (هدم العش لا يفرخ بيضه) (الله وأحمد والينا) (قل لحمد لا يمضيها) الخ.. هذه الهوسات الظاهر فيها التحدي وكانوا يفعلون ذلك في صلف وتيه.
يوم الثلاثاء 11 ذي الحجة سنة 1357
ازدادت اليوم هوسات العجم قوة وشدة وسلاحاً وكانوا يطلقون الرصاص من غير حساب وقد تبين انه موعز لهم في ذلك، وقد استاء الكويتيون جميعا من هذه البوادر السيئة، كيف ينتصر ذوي الأمر بالعجم أعداء العرب الطبيعيين على اخوانهم وبني جلدتهم، وقد حصل استياء شديد من بعض الشباب وتحمس احدهم وهو (عبدالله نجل ثنيان الغانم) فتشاجر مع فارسي فجاء خليفة الأحمد الغانم وهو من ابناء عم عبدالله ثنيان الغانم يؤنب عبدالله على تذمره ومظاهرته ضد العجم فاشتبك معه في عراك نال الاخير منه ضربة قوية في بطنه.
على اثر حملة الصحف العراقية جميعها على تصرفات آل الصباح وانتصارها للحركة الوطنية في الكويت ثم اذاعة قصر الزهور الملكي في بغداد -وهي اذاعة تصدر بوحي الملك غازي- منفصلة عن اذاعة الحكومة العراقية في بغداد، أرسل الشيخ أحمد على يوسف بن عيسى وقال له: "هل اطلعت على الجرائد؟"، قال: "نعم"، قال: "ما معنى هذه الحملات؟"، قال: "هذه صحف همها الوحيد تلقف الاخبار، واذا كنت تظن انها مدبرة من أعضاء المجلس فأعضاء المجلس جميعهم في الكويت والذي في غير الكويت يعملون حسب اجتهادهم وحدهم"، قال: "والراديو؟" -يعني اذاعة قصر الزهور-، قال: "هذا أمر حكومي ويمكنك مراجعة الحكومة فيه، ثم انك وعدت الناس بالدستور وما حصلت نتيجة حتى الآن"، قال: "والله العظيم انا ما عندي نيات.. نياتي كلها حسنة والدستور ما رجعه علي القنصل إلا أمس، وأنا معتمد أقدمه اليوم، ولكن انا ذاهب الى القنصل واذا رجعت اقدمه"، قال يوسف بن عيسى: "انت بين حالتين، اللي مجاورينك بن السعود وانت تعرف حكمه الاستبدادي، والعراق حكومته نيابية، فأيهما احسن؟"، قال: "أنا أعلم العراق أحسن، وأنا ما عندي نية".. وسار الكلام بينهما على رواية الشيخ يوسف على هذا المنوال.
السبت 28 ذي الحجة سنة 1357
ارسل الأمير على يوسف بن عيسى وعرض عليه الدستور الذي وضعته له حاشيته.
ليلة 29 ذي الحجة سنة 1357
اذاع راديو قصر الزهور برقية واردة إليه بامضاء خالد العدساني هذا فحواها (حضينا بالدستور أيد الله الملك) فاندهشت لذلك وعلمت أن الذي زورها علي أراد الايقاع بي لدى آل الصباح، فذهبت فوراً إالى مدير البرق والبريد أطلب منه اخباري عن الذي سلمهم البرقية فأفهمني انهم يعرفون الذي سلمها لهم، ولكن البوح باسمه من غير اذن رسمي أمر غير جائز قانونا، فاكتفيت بارسال برقية إلى اذاعة قصر الزهور انبئهم فيها ان البرقية التي وصلتهم باسمي مزورة علي.
وفي نفس الليلة اذاعة قصر الزهور اذاعت برقية استغاثة موقعة بـ (سكرتير كتلة الشباب) فيها وصف مؤثر للحيف الذي يقع على الشباب والضغط على الحريات جميعا وما إلى ذلك، وسكرتير كتلة الشباب هو الشاب أحمد زيد السرحان. وفي الصباح ارسل علي الخليفة الصباح مدير الامن علي أنا وأحمد السرحان وهناك تولى فهد السالم أخذ إفادتنا، وقد اقتنعوا بقوة حجتي وأما أحمد فانهم طلبوا منه ارسال برقية ينفي فيها البرقية المنسوبة اليه. وعندئذ برز عبداللطيف الثنيان واعترف لهم انه هو مرسل البرقية لانه (سكرتير كتلة الشباب الفخري) ولما خرج منهم بعثوا اليه يطلبون منه الحضور ثانية وتوقيع اعتراف كتابي بالارسال فلم يذهب وانما ارسل الاعتراف المطلوب.
وفي المساء ذهبت قوة كبيرة مسلحة على رأسها فهد السالم وعبدالله المبارك إلى بيت عبداللطيف للقبض عليه فلم يجدوه، فذهبوا الى بيت عمه أحمد الغانم ولما فهم منهم ان بيدهم أمر بالقبض عليه قال لهم: "أنا ذاهب إلى عبداللطيف وبعد العشاء أذهب إلى الأمير". وفي اثناء ذلك توافد اعيان الكويتيين على بيت أحمد الغانم ليحاولوا بالاقناع واللطف دون القبض على المذكور. وقد ذهبت انا وابن عمي محمد صالح العدساني الى يوسف بن عيسى فوراً لتبليغه بالواقع واقناعه بالذهاب الى فهد السالم لأنه بنفوذه المحسوس لديهم يستطيع تدارك القضية قبل ان يستفحل الأمر وبعد الحاح شديد منا ومن ابنه الكريم عيسى قبل الذهاب، ولما فهم من فهد السالم ان أمر القبض صادر من الأمير ذهب يوسف بن عيسى الى الأمير في سيارة، ولما فاتحه الشيخ يوسف بالموضوع قال الأمير: "الأمر هين انا ارسل الآن مرجان".. وفعلا ارسل عبده مرجان الى فهد السالم يستدعيه وبعد ذلك قدم حمود الجابر الصباح اخو الأمير الى بيت الغانم واعتذر للمجتمعين من الاعيان عن جلب القوة وكذلك علي الخليفة زعم انه ليس لديه علم بالأمر، وانتهى الموضوع عند هذا الحد.
وفي الصباح انعقدت الجلسة النيابية برئاسة الشيخ عبدالله السالم هذه المرة موفداً من الأمير ومعه الدستور لمناقشته وافتتح الكلام الرئيس عاتباً على هذه الحملة الصحفية ومستنكراً ارسال البرقيات المهيجة الى اذاعة قصر الزهور وقال نحن كويتيون يجب علينا ان نحصر جهادنا في حدود وطننا الكويت لا ان نلتجئ الى دولة اجنبية -يقصد حكومة العراق- فتوالت عليه الردود من يوسف العدساني وعبداللطيف الثنيان وآخرين قائلين: "انتم التجأتم الى الاعاجم وحرضتموهم على اهالي الكويت بالسلاح والهوسات والالفاظ النابية والبادي اظلم"، وكلام في هذا المعنى، ثم تدخل المعتدلون فتلافوا هذا الكلام وانتهت الجلسة على ان ينعقد للمجلس جلسات اخرى لمناقشة الدستور المعروض.
يوم الاثنين في 30 ذي الحجة 1 فبراير 1939
وصل المقيم البريطاني في الخليج -ترنجارد فاول- الى الكويت امس واليوم انكمشت جميع القوى المسلحة وظهر فتور في حركات معسكر الأمير.
كان الأمير قد انذر المجلسيون بعد برقية عبداللطيف الثنيان التي طيرها الى اذاعة قصر الزهور انه سيمنع المجلس حتى من مناقشة الدستور اذا كانت الامور ستجري على هذا المنوال وقد رأى بعض الأعضاء حيال ذلك ان يرسل المجلس برقية الى اذاعة قصر الزهور في بغداد بما معناه (ان أعضاء المجلس التشريعي يؤملون الوصول مع الأمير الى اتفاق بشأن الدستور لصالح البلاد) والمقصود بهذه البرقية ترضية الأمير لانها بمثابة تنبيه للاذاعة بتوقيف الحملات التي استمرت تشنها على الوضع السئ بالكويت. وقد تردد الأعضاء الآخرين في قبول ارسال مثل تلك البرقية لانها تسد المنفذ الوحيد الذي يأتيهم منه النصر غير ان الأولين اقنعوهم بالالزام. ولما عرض الأمر على الأمير طلب من المجلسيين ان يكذبوا في نفس البرقية جميعا اذاعة قصر الزهور عن تردي الحالة في الكويت ولمح لهم بحل المجلس ما لم يفعلوا ذلك وكان الوسيط في هذا سمو الشيخ عبدالله السالم، غير ان المجلسيين عند ذلك غضبوا واعلنوا انهم عدلوا عن ارسال اية برقية بأي معنى كان الى الاذاعة، فتطورت الحالة واستمرت اذاعة قصر الزهور تذيع البرقيات الحماسية الكثيرة من جميع نواحي العراق الداخلية وكلها تستصرخ الملك الفتى (غازي الأول) طالبة اليه أمر الجيش العراقي بالزحف على الكويت لضمها الى العراق بصفتها اللواء الخامس عشر من ألوية العراق الاقليمية. واذيعت قصائد ملتهبة كلها في هذا المعنى نضع هنا نموذجا منها:-
حلق بشعـرك في السمـــــاء وطر به به انى تشـاء
وصغ القريض فصاحــــــة هزت قلوب الفصحـاء
واصعد به نحوالمليك الحـــــــر يطفـح بالرجـاء
اعني به شبل الحسين ونسل خيـــــــر الانبيـــاء
غـــاز به سمت العروبة والنفوس له فـــــــداء
طـــــارت له الالبــــاب والهـة وحـن الاوفيـاء
من مبلغ النفر المريض بانهم خلقوا وبــــــــاء
آذوا الكويت وشردوا الاحــــرار واستنوا العــداء
يستسلمون الى الغريب وللقريب بهم جفــــــاء
للاجنبي محبة فيهم وذاك الى الفنـــــــــــاء
والحر شقي فيهموا امـــا اللئيم ففي هنـــــــاء
وكذا الذكي مضيع فيهـــم ويهنى الاغبيــــــــاء
دانوا الشباب بصدقهــــــم اتراهموا كشفوا الغطاء؟
ما للصراحة عندهم حضي ولكن للريـــــــــــاء
يا عصبة الطغيان انا من فعالكم بــــــــــــــراء
من ذا يجادل فيكم واليوم قد برح الخفــــــــــاء
هو العزيز بكم وعز الأدنيــــــــــــــــــاء
ما ترككم مجرى الامـــــور يسوسها نسل الامــاء
أو هكذا ترك البلاد يعيث فيها الادعيــــــــاء
اخيكم يعرب في الخطوب رجائها عند اللقاء
ان النفوس مريضة وعلى يديك لها الشفـــاء
بها يتـم عـــرى البنــــــــاء
وأكتب بسيفــك صفحــة غراء غالبها السناء
ما آلت الا المرتضى لبني العروبة والرجاء
وهذه اخرى:
جاءك النصر يا كويت فهبي واكسري قيد ذلة وهـــــــــوان
وارفعي راية العراق وقولي للرافدين طول زمـــــــــــــــان
واعلني ساعة الجهاد فيوم النصر آت لا ريب دانـــــــــــــي
عين غازي المليك ترعاك بالعطف وعين المليك رمز الحنان
لك في الرافدين في مهج الشعب شعور قد فاض بالتحنـــــان
خير جار لك العراق مغيث سند لنجــــــــــدة الجيـــــــــران
حـــــــــرم النوم مذ رآك تعانين رزايا فراح منها يعانــــــي
كل قلب يبغى اليك نجاة من سياط الأمير والخيـــــــــــزران
هو نمر مشت اليه الاماني يوم والى سياسة الافعــــــــــــوان
جعل الكسب بالحرام حلال ولقد زاغ عن هدى القـــــــــرآن
همه في الحياة جمع اللئالي من تقي جاءته أو شيطــــــــــان
عشق الجاه فاستبد وولى وجهه شطر ذلة الاوطـــــــــــــــان
أن شعب الكويت يا بن صباح شعب عــــزم وهمـــة وتفاني
عربي من الصميم ويأبى عيشة الذل أو يرى كالجبــــــــــان
فمن الحيف أنت تحكم شعب وتــــرى فوقه بأعلى مكــــــان
ومن الظلم أنت تظلم قومـــــــــــا لنبي قــد جاء بالايمـــــان
دك في سالف العصور عروشا يوم بالحق جاء في تبيـــــان
لم تزعزه بهرجان الدراري أو تخادعه جواهـــــر التيـــجان
يا بلاد الكويت كنت سجينا يشتكي من مظالــــــم السجـــــان
كان ينوى لك الأمير هــــــوانا خيب الله منه تلك الامــــاني
فابشري بالخلاص فقـد فرج الله بغاز كاشف الظلم والهـوان
ملك راح ينشــــد العـــــز للعرب جميعا قاصيهموا والـــداني
يرسل العطف بالأمير إلى مـــن عذبته سياســــة الطغيــــان
هو ذخر الكويت ذخر بلاد الضاد وذخر الملهوف من عدنان
يوم السبت 6 محرم سنة 1358
فتحت الجلسة برآسة الشيخ عبدالله السالم وطلب هو الشيخ يوسف بن عيسى مناقشة الدستور المعروض عليهم من الأمير فأظهر جميع الأعضاء تقريبا عدم قبولهم للدستور وقال البارزون فيهم انه غير صالح للمناقشة اصلا لانه خول الأمير كل الصلاحيات الهامة وبذلك جرد المجلس التشريعي من مهمته الاساسية وهي التشريع، كما انه نص على ان الكويت واقعة تحت الحماية البريطانية وهم لا يقرون ذلك لان الحماية في القانون الدولي ذات شروط ومقدمات اهمها اعلان الدولة الحامية عن حمايتها للدولة المحمية وهذا أمر لم يبلغهم عنه شئ، وتكلم يوسف العدساني فقال: "نحن لسنا محتاجين حماية من احد ولا نقبلها منه"، فرد عليه يوسف بن عيسى قائلا: "هذا كلام لا يصح الا مع القوة ونحن واقعين فعلا تحت الحماية البريطانية
(اعترفت الدولة العثمانية في سنة 1901 بعلاقة بريطانيا بالكويت وتعهدت ان لا ترسل اليها قوة حربية على ان لا تحتلها انكلترا او تعلن عليها الحماية. تذكر الحكومة البريطانية في اوراقها الرسمية ان شيخها طلب الحماية البريطانية في سنة 1805 تخلصا من خطر الوهابيين فلم تجبه الى طلبه -مأخوذ من كتاب على طريق الهند- ص 52)، فاعترض يوسف العدساني على كلام يوسف بن عيسى قائلا: "ونحن عندنا قوة الايمان والعقيدة".واخيرا سأل الشيخ يوسف: "هل تريدون ابدي ملاحظاتي على الدستور؟"، فرأى الجميع ان لا حاجة لابداء أية ملاحظات ثم وقعوا كتابا الى الأمير هذا نصه:-
صاحب السمو الشيخ أحمد الجابر الصباح المحترم
بعد الاحترام
لما كانت القاعدة الاساسية في كافة البلدان النيابية ان (المجالس التشريعية هي المسؤولة وحدها عن وضع الدساتير وسن كافة القوانين المقتضية لحاجة البلاد لانها ما أسست إلا لاجل وضعها والمراقبة على تنفيذها) ولما كان المجلس بعد الحاح قد وضع بالاجماع (القانون الاساسي الكويتي) مستوحا من حاجة البلاد وموافقا لكافة القواعد والاصول الدستورية في البلاد النيابية فان المجلس ما يزال معتنقا انه هو الدستور الوحيد المطابق لاماني البلاد آملين الحصول من سموكم على تصديقه.
السبت 6 محرم 1358
وتقبلوا خالص الاحترام
حرر الشباب (كتلة الشباب) الى المقيم البريطاني بالخليج الموجود حاليا بالكويت رسالة تضمنت وصف الحالة السيئة بالكويت، ونوع الارهاب الغاشم المسلط على الأحرار الكويتيين، وبعثوا بها مع احدهم قاسم الحمد الصقر، ولما قابله القنصل (الكابتن ديكوري) أفهمه قاسم ان لديه رسالة يود تسليمها الى المقيم شخصياً، فطلب القنصل تسليمها اليه ليسلمها الى المقيم، غير ان قاسم اعتذر منه لأنه مفوض من قبل الشباب لتسليم الرسالة الى المقيم نفسه فقط، فتركه القنصل ساخطاً، وفي الغد ارسلوها بالبريد المسجل باسم المقيم البريطاني، ولما جاء الموزع الى دار القنصلية البريطانية -حيث يقيم المقيم البريطاني مؤقتا اثناء زيارته للكويت- قابله القنصل وطلب من موزع البريد تسليمها إليه، ولكن هذا اعتذر أيضا فغضب القنصل وبعث بسيارة احضرت مدير البريد - وكان هذا عراقيا لان دائرة البريد كانت اذ ذاك تابعة لمصلحة البريد العراقية، وساق الاثنين مدير وموزع البريد معاً الى الشيخ علي الخليفة في دائرة الامن العام حيث انتزع الشيخ علي الخليفة الرسالة من مدير البريد بالقوة، ولكن بعد بعد مضي ساعة ونصف رجعوها بأمر من سمو الأمير إلى البريد سليمة بختمها، وقد تركت هذه الحادثة اثرا بليغا في نفس القنصل إذ اعتبرها امتهانا لكرامته من قبل أعضاء المجلس مما دعاه يغري آل الصباح ويحرضهم على المجلسيين بالصورة التي تجلت عنهم فيما بعد. بينما أعضاء المجلس لا يعلمون شيئا عن رسالة الشباب هذه بل ان المتنفذين منهم خطؤوهم على الطريقة التي سلكوها مع القنصل.
يوم الاثنين في 8 محرم سنة 1358
على اثر تبادل برقية برموز اصطلاحية بيننا وبين رفاقنا الموجودين بالبصرة ذهب كل من السيد علي سيد سليمان ومشعان الخضير وخالد العبداللطيف وقاسم الصقر ويوسف العدساني وكاتب هذه السطور في سيارة الى الروضتين حيث التقينا هناك بعبدالله الحمد الصقر وعبداللطيف الثنيان قادمين من البصرة في سيارتهما خصيصا لمقابلتنا، وتغدينا معا وتبادلنا المعلومات والآراء التي تتصل بحوادث الكويت وموقف رجالات العراق وهيئاته العليا من القضية ثم رجع الطرفين كل من حيث اتى وقد طلب رفاقنا في العراق تحرير رسالتي شكر الى رئيس حكومة العراق السيد نوري السعيد وصاحب الجلالة الملك غازي على موقف العراق الطيب من قضية الحرية في الكويت.
يوم الثلاثاء في 9 محرم 1358
حرر أعضاء المجلس التشريعي الذين حضروا جلسته اليوم الرسالة الآتية:
الكويت في يوم 9 محرم 1358
حضرة صاحب الجلالة الملك غازي الأول ملك المملكة العراقية ادام الله بقاه
السلام عليكم ورحمة الله،
وبعد فان اول واجبات أعضاء مجلس الأمة التشريعي وممثلي البلاد الشرعيين ان يرفعوا للسدة الملكية اسمى عواطفهم الطافحة بالشكر والامتنان الخالص للمساعي الجليلة الفعالة المستوحاة من روحكم الهاشمية ونخوتكم العربية لتأييد قضية الكويت العربية ونصرة ابنائها الاحرار في سبيل تحقيق الاماني المشتركة للوصول الى الهدف الاكبر، ابقاكم الله رمزا خالدا لعز العرب وفلاحهم.
ويلي ذلك تواقيع ثلاثة عشر عضوا الذين حضروا الجلسة، أما السبعة الباقون فانهم كانوا متغيبين عن الجلسة وبعضهم خارج الكويت.
ثم حرروا الرسالة الثانية الآتية:
حضرة صاحب الفخامة السيد نوري السعيد رئيس الحكومة العراقية المحترم
بعد التحية والاحترام،
ان أعضاء مجلس الأمة التشريعي ليسرهم ان يرفعوا للحكومة العراقية في شخص فخامتكم اجمل عواطف الشكر والامتنان للمساعي المبرورة في تأييد قضية الكويت العربية ومؤازرة القوميين من ابنائها آملين مواصلة الجهود الفعالة لتحقيق الاماني المشتركة الرامزة الى الهدف الاكبر وتقبلوا فخامتكم خالص الاحترام،
وسلموا الرسالتين الى عبدالله الحمد الصقر في البصرة ليسلمها شخصيا في بغداد
(يلي هذا رسالة الشباب الى الملك غازي المنشورة في دفتر رقم 6).يوم الاحد 14 محرم سنة 1358 الموافق 5 مارس سنة 1939
اليوم هذا أقيمت في ساحة القصر حفلة كبيرة دعي اليها اعيان الكويتيين وذلك لمناسبة تقديم المقيم البريطاني في الخليج وسام (سي. آي. اي) الى الشيخ عبدالله السالم الصباح وقد القى فخامة المقيم خطابا هذه ترجمته موجها للأمير:
يا صاحب السمو، لي الشرف العظيم ان اقدم هذا اليوم بأمر جلالة الملك جورج السادس وسام (سي. آي. أي) الذي اوصى سموكم بتقديمه الى بن عمكم عبدالله بن الشيخ سالم بن مبارك الصباح تقديرا للخدمات التي اداها لسموكم ولبلاد الكويت باخلاص، واولئك الذين يخدمون بلادكم بدون انانية يكونون اعزاء عند ملكي وحكومتي لان بلاد سموكم من ايام مبارك العظيم كانت ولا تزال مرتبطة بروابط خاصة مع حكومتي وباقية تحت حمايتها.
واولئك الذين يخدمون بلادكم ويؤدون لكم الخدمات الطيبة فانهم بعملهم هذا يخدمون الملك العظيم ايضا لان خطتنا بفضل الله واحدة نرجو ان نسير عليها الى طريق الرقي على اساس المودة وحسن التفاهم التام وعلى هذا فان هذا التقديم دلالة على احترام حكومة جلالة الملك ليس للشيخ عبدالله السالم فحسب بل كذلك لكل فرد من أفراد اسرتكم البارزين واشراف الكويت على اختلاف طبقاتهم الذين يقدمون الخدمات الطيبة الصادقة لحكومتكم في سبيل صالح مواطنيهم العرب العام.
وبالختام ارجو ان يسود السلام الشامل الدائم والرقي المطرد في بلاد الكويت السعيدة تحت حكم سموكم وتحت حماية بريطانيا العظمى.
وعند ذلك نهض سمو الأمير ورد على سعادة المقيم البريطاني شاكرا للحكومة البريطانية ومؤيدا قول المقيم ان الكويت واقعة تحت الحماية البريطانية.
وهذه اول مرة في تاريخ الكويت يرد ذكر وقوع الكويت تحت الحماية البريطانية في الاقوال الرسمية قصدا بمناسبة عدم اعتراف غالبية أعضاء المجلس التشريعي بالحماية المذكورة، وقد استاء الاحرار من التصريح بالحماية على هذا الشكل فانعقد المجلس التشريعي في نفس اليوم وحرر لسمو الأمير الكتاب التالي الذي بعثوه الى سموه في اليوم التالي:
حضرة صاحب السمو الشيخ أحمد الجابر الصباح المحترم
بعد الاحترام، لنا الشرف ان نفيد سموكم ان مجلس الأمة التشريعي بصفته ممثل الأمة الكويتية الناطق بلسانها وبالاستناد الى الصلاحيات القانونية السابقة والمكاتبات الرسمية المتبادلة يعلن لكافة من يعنيهم الأمر انه (عدى المعاهدات والاتفاقات السابق ابرامها من قبل حاكم الكويت الحالي وحكامها السابقين مع حكومة صاحب الجلالة البريطانية الى ما قبل اليوم الحادي عشر من شهر جمادي الأول 1357 هجرية فكل قانون أو معاهدة أو اتفاق أو تنازل يحدث بعد هذا التاريخ من أي كان ومع أي كان يمس حقوق أو شئون الكويت السياسية وغيرها، كل ذلك يعتبر غير جائز ولا نافذ ولا تتقيد به البلاد.
وختاما تفضلوا بقبول خالص الاحترام،،
ويلي ذلك تواقيع الأعضاء الحاضرين.
الكويت يوم الاحد شهر محرم 1358 الموافق 5 مارس 1939
وقد كان وقع الكتاب سيئاً جداً على الأمير فأصدر أمره في اليوم التالي بحل المجلس فأنقطع بذلك كل أمل في الوصول الى حل يطمئن النفوس ويقضي على طغيان التحكم الفردي الكيفي في الكويت، وأستطال بذلك جانب الاستخفاف والعبث بالشئون العامة من قبل أفراد العائلة الحاكمة واستهانتهم لكرامة الكويتيين ورجالاتهم لا سيما وقد بدأ صوت اذاعة (قصر الزهور الملكية) بالعراق يخفت شيئا فشيئا بعد ان كان يدوي عاليا كل ليلة في أرجاء الأثير ويتحدى محطة الاذاعة الانكليزية التي كانت على طريقتها الاستعمارية تدس على الوطنيين الكويتيين وتنعتهم بالاشرار والخارجين على النظام وتدس على حركتهم الاصلاحية وتهيج الملك عبدالعزيز السعود الذي كان يمقت حركة الاصلاح والقائمين بها في الكويت حذرا من تسربها وانتقال عدواها الى بلاده المفتقرة الى الاصلاح والمصلحين أضف الى ذلك ان انتصار الملك غازي لقضية الحرية في الكويت وهو الملك الهاشمي الاصيل وما يحتمل ان يسفر عن ذلك من ضم الكويت الى العراق، والكويت هي الميناء البحري العظيم المتصل في نجد منذ بداية منذ تأسيسه بروابط شتى من المصالح التجارية، وغالبية اهله وحكامه متحدرين من القبائل النجدية الخالصة هذا بالاضافة الى اليد الاجنبية التي كانت تلعب من وراء الستار. كل ذلك أهاب بالملك بن سعود على أخذ الحذر والحيطة من تغلغل النفوذ الهاشمي في شرق الجزيرة بعد ان كسحه عنها في الغرب فاخذ ينادي انه لا يرضى عن ضم الكويت الى العراق وان الكويت للكويتيين
(في الواقع لا يهم الملك بن السعود ان تكون الكويت للكويتيين وان الذي يهمه فقط هو ان لا تنضم الكويت بمشيئة اهلها الكويتيين الى العراق، فكأنه بذلك ينادي فلتبقى الكويت للانكليز وحدهم لا للكويتيين ولا للعراقيين) واخذت جريدته أم القرى في الحجاز تعقد الفصول الطويلة معلنة عن سخطها على الحركة التحريرية في الكويت والمناصرين لها من العراقيين، ومحطة الاذاعة في لندن تنقل ذلك كله على لسان الملك بن السعود فتزيد في الاساءة والاثارة بين العاهلين في الرياض وبغداد مما حمل من في بغداد على التفكير والتروي لدرء هذا الاختلاف الذي قد يضر بمصالح القضية العربية جمعاء اذا توسع او استفحل أمره بين البيتين المالكين العربيين كما ان السيد نوري السعيد الذي كان من الموالين للسياسة الانكليزية الى حد بعيد طار من لندن عائدا الى بغداد بعد استفحال هذه الازمة ليقف في طريق المتحمسين العراقيين حكومة وشعبا وجيشا على رأسهم الملك الشاب المتحمس فأخذ باساليبه الثعلبية المعروفة وبصفته رئيسا للوزارة العراقية القائمة يداور المتحمسين يخوفهم تارة من عواقب الحركة المندفعة ويمني الملك اخرى بأن قضية الكويت من السهل حلها ولكن بالاصول الدبلوماسية السلمية مع الانكليز بدلا من الحركات العسكرية المجهولة النتائج حتى جاءت حركة المؤامرة من بعض الضباط الثائرين في الجيش على حياة الملك، وقيل ان نوري السعيد هو الذي اختلق وجودها -ليفل العزائم الثائرة في الجيش والبلاط عن نجدة الكويتيين- وبذلك صمتت اذاعة قصر الزهور عن قضية الكويت بالمرة، فتهدمت اعصاب الوطنيين الكويتيين واشتد ساعد خصومهم فكان حل المجلس اول اثر لهذه الظاهرة المثبطة لعزائم الوطنيين.============